أقلعت السفينة من ميناء كولومبو فى سريلانكا، أول سبتمبر 1899، بالشاعر محمود سامى البارودى، عائدا إلى وطنه مصر بعد 17 عاما فى المنفى، مرت ثقيلة عليه وعلى زعماء الثورة العرابية، التى قضت المحكمة يوم 10 ديسمبر 1882 بنفيهم إلى الأبد من الأقطار المصرية وملحقاتها وهم، أحمد عرابى، طلبة عصمت، عبدالعال حلمى، محمود سامى البارودى، على فهمى، محمود فهمى، يعقوب سامى.
«آمن البارودى بالثورة فدفع لها عمره وأمواله كنموذج للوعى حين يغير الإنسان»، بتقدير صلاح عيسى فى كتابه «الثورة العرابية»، وحين تم القبض عليه وإيداعه بالسجن «ظل على موقف الشرف والإباء الوطنى، كريم الأصل والعنصر، فلم يطعن الثورة من الخلف، ولم يغدر بزملائه، ولم يستجب للوقيعة بينه وبين عرابى أمام لجنة التحقيق»، وفقا للدكتور على الحديدى فى كتابه «محمود سامى البارودى.. شاعر النهضة».
يضيف «الحديدى»: «ولد البارودى فى القاهرة يوم 6 أكتوبر عام 1839، وقتل جده لأمه، على أغا البارودى، وجده لأبيه، عبدالله الجركسى الألفى، فى مذبحة القلعة يوم 2 مارس 1811، وتفتح على حسرة اليتم وألم الحرمان من عطف الأبوة بعد موت والده، اللواء حسن حسنى البارودى، فى دنقلة بالسودان، حيث ذهب مديرا لها فى عام 1846 بقرار من ولى النعم محمد على.
تخرج البارودى فى المدرسة المفروزة، ضابطا فارسا، ويذكر «الحديدى»: «شغف بقراءة التاريخ والشعر، ووجد فى كتب التاريخ سيرة آبائه وأجداده، واستهواه قراءة شعر الفرسان، ومن حسن حظ الأدب والشعر أن استهواه شعر الأقدمين، ولم يلتفت فى فترة تكوينه إلى شعر المحدثين من أمثال إسماعيل الخشاب، والشيخ العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد على الدرويش، الذين كتبوا نظما اقتضته معرفة العروض ودراسته، وصورا لفظية تدثرت بمحسنات البديع، ويمثل هؤلاء فترة الانحطاط والتدهور فى تاريخ الأدب العربى كله».
عاش «البارودى» بثنائية الشاعر والفارس، وفيما كان يكتب بأشعاره تاريخا جديدا للأدب العربى الحديث، انشغل أيضا بمستقبل مصر فأسس «الحزب الوطنى» مع آخرين فى عهد الخديو إسماعيل، ويذكر كتاب «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر»، لمؤلفه الإنجليزى «ألفريد بلنت»، مراجعة «الشيخ محمد عبده»: «هو أول من فكر فى قلب نظام الحكم فى مصر وتغييره إلى جمهورية، وأغراه إسماعيل بأن يترك الحزب الوطنى، وعرض عليه المال لكنه رفض، وهو ينفق جميع إيراده الضخم على الحزب، ومنزله أشبه بقافلة حطت رحالها فى الطريق، أما حياته الشخصية فحياة فيلسوف، لا ينفق شيئا على نفسه، قانعا راضيا بما يأتى به القدر، ومتضطلعا فى الآداب العربية، وكراهية الأتراك له دليل على وطنيته».
شق «البارودى» طريقه السياسى، فأصبح وزيرا للحربية ورئيسا للوزراء ومن قيادات الثورة العرابية، ولما فشلت غادر مصر منفيا مع زملائه من قادة الثورة، وكانت حياة المنفى دراما إنسانية عميقة يصفها «الحديدى» قائلا: «تمر الأعوام ثقيلة على الزعماء فى المنفى، فتضيق صدورهم بالاغتراب، وينال المناخ الاستوائى منهم، فتعتل أبدانهم وتهاجم الأمراض، وتشغل الحياة الأهل والصحاب، فتقل الرسائل إليهم فيظنون أن النسيان قد جر ذيوله عليهم، وتدب الفرقة بينهم ويقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وتستشرى الخصومة حتى يقع بينهم الشقاق، ويعتزلهم البارودى ويسكن فى منزل على ربوة عالية بمنأى عن المتخاصمين فتزيد الوحدة من آلامه، ويطول به السهاد، ويقبل عليه عام 1885 لتزحف مواكب الأحزان، فيتخطف الموت زوجته فى القاهرة وهى فى الـ37 عاما، وينزل الخبر عليه كالصاعقة فيكتب: لو كان هذا الدهر يقبل فدية/ بالنفس عنك لكنت أول فادى».
بعد وفاة زوجته بشهور يتلقى خبر وفاة ابنته «ستيرة»، ويدرك يعقوب سامى أن رئيسه وزميله فى الاغتراب وشريك النكبة يكاد يودى به الأسى فيزوجه بابنته «أمينة» فى أواخر 1885 ، ويبلغ الستين فى عام 1899، وتهاجمه العلة والمرض ويكاد يصاب بالعمى، حسبما يذكر «الحديدى»، مضيفا: «قررت جمعية الأطباء فى «سرنديب» ضرورة عودته إلى وطنه، لأنه سيصاب بالعمى إن ظل فى الجزيرة، وقد يدركه ما أدرك إخوانا من قبل، وكان قد توفى من رفاق النفى بالجزيرة عبدالعال حلمى 1891، ومحمود فهمى 1894، لعدم ملاءمة المناخ الاستوائى ».
يذكر «الحديدى»: «يجزع أصحاب البارودى وأهله بالقاهرة، فيلحون عليه أن يتقدم بالتماس إلى الخديو عباس الثانى ليسمح له بالعودة، ويلقى الشيخ محمد عبده بكل ثقله ومساعيه لينقذ صديقه وتتكلل المساعى بالنجاح»، وتصل السفينة به وأسرته التى تكونت فى المنفى إلى ميناء السويس فى 12 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1899، وينقل «الحديدى» على لسان ابنته فاطمة: «وقف مستقبلا مصر وهو قابض على سور السفينة والدموع تنهمر من مآقيه، ولا يجرؤ أحد منا أو من مستقبليه أن يقترب منه، فيقطع عنه لحظة اللقاء مع وطنه الحبيب».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة