رفع الظلم ورد الاعتبار لفنان الشعب خالد الذكر سيد درويش وتنقية سيرته من التشويه والتزييف والأكاذيب مهمة وطنية تقع على عاتق الباحثين فى تراث الموسيقى وأهل الفن ومعاهد ومراكز الموسيقى الرسمية وغير الرسمية.
فبعد 100 عام من وفاته ونحن نحتفل بمئوية هذا العبقرى مفجر ثورة الغناء المصرى والعربى مازالت حملة الأكاذيب التى روجت لها الصحف التابعة لسلطات الاحتلال الإنجليزى وللقصر فى ذلك الوقت بعد وفاته يعتقد فيها البعض ويرددها دون البحث والتدقيق فى صحتها مثل أكاذيب كثيرة ودعاية سوداء روجها أهل الشر ضد شخصيات تاريخية وفنية فى تاريخنا.
عقب وفاة سيد درويش فى 15 سبتمبر 1923 راح عدد من الصحف المدعومة من سلطات الاحتلال بنشر أخبار عن وفاته نتيجة تناوله جرعة زائدة من المخدرات زاعمة أن درويش كان "مدمنا للخمر والكوكايين"، ودفن سيد درويش ومعه حقيقة موته والسبب الحقيقى فى وفاته.
حتى عندما طلبت أسرته فى ذلك الوقت بضرورة تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة رفضت سلطات الاحتلال الإنجليزى وللأسف ومع الإلحاح فى نشر الأكذوبة صدقها البعض واستمرت حتى وقتنا هذا رغم محاولات بعض الباحثين فى تحرى أسباب الوفاة لمعرفة كيف مات سيد درويش وهل مات بفعل المخدرات أم أنه قتل من سلطات الاحتلال بسبب موقفه المعادى وإشعاله لحماس المصريين بألحانه وأغانيه..؟
من المهم أن نعرف حقيقة أنه حتى بداية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كان المخدران المعروفان فى مصر هما الحشيش والأفيون غير أن خطر السموم البيضاء بدأ يزحف إلى مصر بظهور الكوكايين فى عام 1916 لكن لم يحتل الهيرويين محل الكوكايين بالصورة المعتادة إلا بعد الحرب العالمية الثانية وتشير إحدى الدراسات إلى أنه قرب نهاية الحرب العالمية الأولى تمكن كيميائى يونانى يعيش بالإسكندرية من تحضير مادة الكوكايين فانتشر بسرعة بين طبقات الشعب، ولم ينشأ مكتب لمكافحة المخدرات فى مصر إلا عام 1929، وكان أول جهاز متخصص للمكافحة فى العالم - أى بعد وفاة سيد درويش بحوالى 6 سنوات تقريبا - وهو ما يعنى أن تناول مثل هذه المخدرات كان متاحا فى العرف الشعبى ولم يكن هناك تشريعات تمنع من التعاطى، حتى أن أول تشريع صدر فى مصر لتجريم استيراد الحشيش وزراعته كان عام 1879.
واستمر المشرّع فى وضع عقوبات بلغت شدتها فى تشريع سنة 1891 حيث جعل غرامة قدرها خمسين جنيهاً لكل فدان أو جزء من الفدان يُزرع حشيشاً، بما يعنى أن التجريم للزراعة والاستيراد.
إذن كان تناول الحشيش والكوكايين بين فئات الشعب فى تلك الفترة مسألة طبيعية وغير مجرمة مقارنة مع ما صدر من تشريعات لاحقة.. ومسألة تعاطى سيد درويش للمخدرات تتزامن مع احتكاكه بفئات الشعب من العمال والبنائين والحمالين وغيرهم خاصة أنه عمل فى مهنة النجارة بعد وفاة والده وعاش حياة معيشية صعبة خاض فيها قصص غرامية مع نساء لم تكن فى مستواه الفنى أو حتى الاجتماعى.. فكان تعاطيه المخدرات بعد وقوعه فى غرام سيدة إسكندرانية تدعى "جليلة أم الركب" وهيامه بها وكانت هذه العلاقة مثار حديث الناس.
ويرى نقاد ودارسون أن سيد درويش لم يكن يختار لحبه وعشقه نماذج راقية أو ذات حسب ونسب، وتتمتع بمراكز اجتماعية متميزة بل كان لا يحلو له العشق إلا فى أجواء غريبة.
وفى حب "جليلة" كتب أروع ألحانه "أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول"، و"ضيعت مستقبل حياتى فى هواك" و"زورونى كل سنة مرة.. حرام تنسونى بالمرة".
وبسبب فشله فى حبه لجليلة ومحاولته لنسيانها أسرف فى التعاطى، وحاول نسيانها عندما انتقل إلى القاهرة بالدخول فى علاقات عاطفية وغرامية، إلا أن حب جليلة ظل غرام حياته الأوحد رغم ولعه بعد ذلك بمطربة تدعى حياة صبرى مغنية بعض أوبريتاته الغنائية.
المفارقة أن فى حياة سيد درويش من النساء سيدتان تحملان اسم "جليلة" واحدة من الإسكندرية التى أحبها ولم يتزوجها والثانية قاهرية عندما سكن فى حى روض الفرج مقصد الفن والفنانين. وأثناء ذلك رأى جدتى جليلة وطلب من الجيران الوساطة لإتمام الزواج، وتم الزواج فعلا وهو ما أثمر عن ولدين هما يحيى الذى مات صغيرا وحسن.
هنا نبدأ فى محاولة الرد على تلك الأكذوبة التى التصقت ظلما بسيرة خالد الذكر سيد درويش
أولها أنه وهو الشخص الذى مر بمرحلة صعبة فى حياته دفعته إلى طريق المخدرات، هو نفسه الفنان الذى كافح بفنه فى سبيل التخلص منها، ولحن من أجل ذلك عددا من الأعمال الفنية التى تحرض على كراهية المخدرات والابتعاد عنها، من هنا يبدو منطقيا أن ينفى الدارسون لموسيقى الشيخ سيد درويش، أن يكون الرجل قد أسرف فى تعاطى المخدرات، خاصة الحشيش حتى مات ويتساءلون كيف لرجل يفعل ذلك، وهو الذى غنى للشعب المصرى، وكانت أغانيه هى وقود ثورة الشعب فى 1919، فمع قصصه الغرامية كان عشق مصر وشعبها غرامه الأكبر.
درويش لم تكن له أى علاقة بالمخدرات بهذه الصورة المسيئة والفرية الكاذبة - كما قال حفيده محمد حسن درويش فى حوار صحفى سابق - وتساءل:" كيف لمبدع مثله أن يكون مدمنا وينجح فى تقديم هذه الأعمال بل إنه كان يحارب الكيف والمخدرات فى أغنياته وغنى "يحرم علينا شربك يا جوزة" و"مصر عايزة جماعة فايقين".
هنا نقول كيف لمدمن الخمر والمخدرات أن ينجز هذا الإبداع الموسيقى والإعجاز الفنى فى 6 سنوات فقط بما لا يستطعه غيره فى مائة عام.... هل من المعقول أن يلحن ويغنى سيد درويش أكثر من 200 أغنية من بينها 75 لحنا وطنيا وعشرات الأدوار و20 أوبريت من أهم كنوز الموسيقى العربية، وهو مدمن و" مسطول" عقله غائب وتائه..!
هل يستطيع مدمن أن يقود ثورة الغناء الجديد فى مصر والعالم العربى وينحاز لوطنه وشعبه ضد القصر والاحتلال ثم يطلق عليه الناس من الشقيانين العمال والسقايين والبنائيين والفلاحين وباقى أصحاب المهن الأخرى لقب "فنان الشعب" ويرفض إغراءات السلطة بكل سطوتها ونفوذها .؟
هل من ضل عقله وغاب عن واقع الحياة فى مصر يستطيع أن يلحن ويغنى "الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية" و"الأسطى عطية".. رمز كل عمال مصر الذى يصرخ فيها قائلا: "صبح الصباح فتّاح يا عليم والجيب مفيهش ولا مليم.. مين فى اليومين دول شاف تلطيم زى الصنايعية الملاطيم" والتى تحولت إلى ما يشبه النشيد اليومى الوطنى للمصريين فى عام 1917 ليستمر فى عطائه الفنى الوطنى وصولا إلى ثورة 19 وما بعدها..؟
هل من المنطقى والمعقول أن تختار فرقة أولاد عطا الله شخصا مسطولا ومدمنا ليرافقها فى رحلة فنية إلى سوريا ولبنان وفلسطين استمرت 3 سنوات وهى السنوات الأكثر تأثيرا وثراء فى حياة سيد درويش وفى ثقافته الموسيقية، والتى شكلت حصيلة معرفته بأسرار اللحن والغناء، وأتاحت له الفرص لكى يدرس ويتتلمذ فى بدايته على أيدى أساتذة الموسيقى الشرقية والنغم الشرقى الأصيل، فأتقن أصول الغناء والتلحين وتعلم دروبه ومقاماته ومخارجه، إضافة إلى الرحلة لم يتوقف عن التطلع والدراسة والمعرفة والنزول إلى المصادر الطبيعية التى كانت تغذى عبقريته.
السؤال الأهم أيضا هنا وهو ...هل يمكن لقامة فكرية وأدبية ذائعة الصيت مثل الأستاذ محمود عباس العقاد أن يمنح لقبا لفنان "خمورجى" و"مدمن مخدرات"، فقد أطلق الأستاذ العقاد على سيد درويش لقب "إمام الملحنين"، و"نابغة الموسيقى" إلى جانب الألقاب الأخرى التى منحها له الناس والموسيقيون مثل "فنان الشعب"، "خالد الذكر"، و"مجدد الموسيقى"، و"باعث النهضة الموسيقية".
حتى أن الموسيقار محمد عبدالوهاب قال عن موسيقاه حين سمعها لأول مرة: (إنها موسيقى عِشَريّة... موسيقى بنت حلال... موسيقى لها أب ولها أم)، ويعترف بأن "قبل سيد درويش لم نكن نسمع عن شيء اسمه ملحن.. إن سيد خلق للملحن المصرى الشخصية الملكية، سيد لحن لأصوات المطربين ولأصوات الشعب ونحن لا نزال نعيش فى خيره فهو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة التى نعيش فيها"، فهل هذه الشهادة من موسيقار الأجيال وغيرها من الشهادات الأخرى يمكن منحها لمدمن وضائع..!!
فإذا كنا نحتفى ونحتفل ونكرم فنان الشعب فى مئوية رحيله فينبغى أن نرد له الاعتبار الشخصى وتبرئته من أكذوبة المخدرات التى تسببت فى وفاته.
وهو ما يجعلنا نعيد السؤال من جديد حتى ولو بعد 100 عام ..من قتل سيد درويش ..؟
هل قتله الإنجليز كما يقول حفيده محمد حسن درويش، بأن الإنجليز من دسوا له زيت الزرنيخ فى عشائه الأخير فى آخر بروفة لأغنية "مصرنا وطننا سعدنا أملنا" التى كان يجهزها لاستقبال الزعيم سعد زغلول والاحتفال بعودته. ويميل لهذا الرأى الفنان إيمان البحر درويش حفيد الراحل ففى حديث سابق لـ"العربية. نت" بأن الوفاة أبدا لم تكن طبيعية، وعائلة الراحل طلبت تشريح الجثة، إلا أن الحكومة التى كانت تدار وقتها بواسطة الإنجليز رفضت طلب التشريح، وهو ما يؤكد أن مقتل سيد درويش جاء بسبب عدائه للإنجليز وانحيازه للشعب. وأضاف " ان ما نشر وقتها من كون الوفاة حدثت بسبب المخدرات لم يكن إلا لتشويه صورة سيد درويش لدى الشعب، والحقيقة نشرت أكثر من مرة، وتناول الكاتب محفوظ عبد الرحمن الأمر فى مسلسل "أهل الهوى".
فى كتابه "من قتل سيد درويش؟" يستعرض الكاتب حنفى المحلاوى شهادات ووثائق حول تورط رجال الاحتلال البريطانى لمصر، فى قتل الفنان سيد درويش. بسبب مواقفه المعادية لهم والمؤججة لمشاعر المصريين ضدهم. فقد كان هو الزعيم الفنى لثورة 19
ويؤكد "المحلاوي" فى كتابه، أن سيد درويش كان وراء كشف المؤامرة البريطانية التى رغبت فى التفرقة العنصرية بين المسلمين والأقباط، لذا صنع سيد درويش وبديع خيرى لحن "لا تقولى نصرانى ولا مسلم، الدين لله يا شيخ اتعلم، الدين لله يا شيخ اتعلم، اللى أوطانهم تجمعهم، عمر الأديان ما تفرقهم". ويصل "المحلاوي" من خلال هذه الملامح والأدلة، إلى أن سيد درويش كان عثرة أمام الاحتلال البريطاني، وأنهم دسوا له السم لينتهى إلى الأبد عن طريق مطربة تدعى "وداد"، كان سيد درويش قد صفعها على وجهها عندما استفزته بصوتها الرديء.
هى دعوة وفرصة ذهبية فى مئوية فنان الشعب أن نرد له الاعتبار ونكرمه بما يليق به وبفنه وتراثه الفنى الخالد.