أرسل محمد على باشا، بعثاته العلمية إلى أوروبا وبدأها بإيطاليا سنة 1813، بأن أوفد إليها عددا من التلاميذ لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن والطباعة وغيرها، وفى سنة 1818 غير وجهته إلى فرنسا، فأرسل إليها عددا من التلاميذ، وفى مايو سنة 1826 أرسل بعثة ثانية عددها 42 تلميذا من بينهم رفاعة الطهطاوى، ثم توالت البعثات إلى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، حسبما يذكر الأمير عمر طوسون فى كتابه «البعثات العلمية فى عهد محمد على ثم فى عهدى عباس وسعيد»، مضيفا أن محمد على فكر فى الشخص الذى يعهد إليه بعثاته العلمية، فهداه حسن الظن إلى «مسيو جومار»، فكان رئيس البعثات المصرية بفرنسا وغيرها.
كان «جومار» المولود عام 1777 والمتوفى عام 1862 من العلماء الذين اصطحبهم نابليون بونابرت فى الحملة الفرنسية لاحتلال مصر عام 1798، وكان من المهندسين الجغرافيين من أعضاء لجنة العلوم والفنون، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
يذكر «الرافعى»، أن «جومار» له فى مصر أبحاث جغرافية وأثرية على جانب كبير من القيمة، واشترك فى رسم خريطة مصر، وعاد إلى فرنسا سنة 1801 بعد مقتل الجنرال كليبر، واشترك من سنة 1803 فى وضع كتاب «وصف مصر»، وكان من أهم أعضاء اللجنة التى ألفتها الحكومة الفرنسية للعمل فى وضع هذا الكتاب الجليل، ثم تولى تنظيم العمل فى هذا الكتاب وقضى سبعة عشر عاما مشتغلا فى إظهاره، وله فيه أبحاث ممتعة هندسية وجغرافية وأثرية ومن أهمها بحث مستفيض عن تخطيط القاهرة القديمة والحديثة نشر فى الجزء التاسع عشر منه، وانتخب عضوا بالمجمع العلمى الفرنسى مكافأة له على أبحاثه فى الآثار المصرية، واشترك فى إنشاء الجمعية الجغرافية بفرنسا.
يضيف الرافعى، أن «جومار» كان من يوم أن عاد إلى مصر لا يألو جهدا فى دراسة الأبحاث العلمية الخاصة بها، وفى سنة 1826 تولى رئاسة أول بعثة مصرية أرسلها محمد على إلى فرنسا لتلقى العلوم فى مدارسها، فأمد تلاميذ هذه البعثة والبعثات التى تلتها برعايته العلمية والأدبية، وأنجبت هذه البعثات طائفة من علماء مصر الذين كان لهم فضل كبير فى نهضتها، وكان لجومار مكانة كبيرة عند محمد على، وأنعم عليه بالوسام المجيدى، ولما أعيد إنشاء المجمع العلمى المصرى أسندت إليه رئاسته الفخرية سنة 1861، فكان صلة الاتصال الباقية بين المجمع العلمى المصرى القديم وبين الحديث، وظل منكبا على أبحاثه العلمية إلى أن توفى سنة 1862 وعمره 85 عاما، وهو معدود فى فرنسا من كبار علماء الجغرافية والآثار القديمة.
يذكر عمر طوسون: «لم ينس جومار لمصر حقها عليه مدة إقامته فيها، فخدم محمد على ومصر والمصريين وهو فى بلاده أجمل الخدمات، وعرف له ذلك جدنا الأعظم فبعث إليه بكتاب شكر مع هدية»، ويأتى طوسون بترجمة النص الفرنسى لكتاب الشكر إلى العربية، وكان بتاريخ 10 يناير، مثل هذا اليوم، 1835، ويقول فيه:
«جناب المحترم السيد جومار العضو بمعهد فرنسا: شكرا لك يا صديق مصر العامل بجد وإخلاص لنفعها حتى كأنك نبراس رغباتى فى تمدين البلاد التى جعلنى الله على رأسها، إذ لم تنقطع عن إظهار ولائك بأدلة قاطعة، وهى تلك الجهود العظيمة التى تعانيها فى مراقبتك التلاميذ الذين أرسلتهم إلى وطنك منذ سنين عديدة، وقيامك حق القيام بتهذيبهم، ولقد عادل جدك تضحيتك، وإنى وأن لم أجد وسيلة إلى الآن للتغلب على تمنعك الذى ليس له مصدر غير رقة طباعك، أرجو رغبة فى إظهار ما يكنه فؤادى من قدر فضائلك العظيمة حق قدرها، ألا ترفض الهدية الصغيرة التى أقدمها لك، ألا وهى علبة تبغ قد يكون لها قيمة فى نظرك، عندما تعلم أنى أنا الذى أهديتها إليك.
وقد كلفت وزيرى الأمين «بوغوص بك» أن يوصلها إليك، وإنى أؤكد لك أيها السيد أن هذه ليست مكافأة تليق بجهودك التى عادت على مصر بالفوائد الجليلة، بل هى تذكار صغير من أمير ساعدته على أن يسير بعض خطوات فى طريق تمدين الشعب الذى يحكمه، وهى فى الوقت ذاته رجاء منى لك بالاستمرار فى المستقبل فيما بدأت به، وإنى لفى انتظار هذا البرهان الجديد على تفانيك فى خدمة قطر مدين لك بكثير من الخدمات الصالحة، ومن جهة أخرى كن متأكدا من العزيمة الصادقة التى اعتزمتها، ألا وهى معاضدة الرغبات التى يبديها لى أمثالك الملتهبون غيرة على الإنسانية، تلك الرغبات التى تبدونها فى سبيل الإصلاح، وإنى أهدى إليك فى الختام تحيات تنبئك عن خالص مودتى».. محمد على.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة