الرصاصةُ الأخطر قد تأتيك من فريقك؛ ذلك أنها غالبًا ما تكون الأقربَ والأدقّ. وفى فلسطين تتلقَّى القضية ضرباتِ العدوّ لسبعة عقود؛ لكنها ما تضرَّرت قَطّ مثلما جرى فى سنواتها الأخيرة. ومن دون عاطفةٍ أو تجميل، ثمّة مَن يستثمرون فى المحنة بعصبٍ بارد، والاستثمارُ من طبيعته أنه يُوظِّف فائضَ القيمة لأجل الربح، يُقسِّم بيئة العمل إلى سادةٍ وعبيد، ويمتصُّ عرقَ العُمّال ليُراكمَ ثروات البرجوازيين. وأداةُ الإنتاج الوحيدةُ هنا هى الدم، والذين يربحون من وفرته آخرُ مَن يتطلَّعون إلى سَدّ منابعه. الصهاينةُ تُجَّارٌ مُحترفون فى التشفّى وتشفية لُحوم الضحايا من عظامهم، كأننا فى مُتواليةٍ دراميّة مُمتدّة من اليهودى «شايلوك» فى الحكاية الشكسبيرية، إلى النازى «نتنياهو» فى سرديّة الوطن القومى ما بعد التمكين. هذا ممَّا يُمكن استيعابُه وإن رفضناه؛ فالخصمُ الجارحُ تُبهجه أشلاءُ الفلسطينيِّين ومواجعهم؛ إنّما ما لا يُفهَم على الإطلاق أن تنقلب الأرضُ على نفسها، وأن يطلعَ من بين الجُثث مَن يبتهجُ بالموت أو يستثمر فيه. إنها صيغةٌ مازوخيّة فى أصفى القراءات، وانحطاطٌ أو مُؤامرة مقصودة فى أسوأها، وكلاهما نارٌ صديقة لا تقلُّ فَتكًا عن النار الغريبة، وتزيد عليها أنها تأكلُ نفسَها أوّلاً، وتغسل يدَ المجرم الأصيل ثانيًا، ثم تملأ طبقَه بوجبةٍ مجَّانية سهلةٍ من أبدان الشهداء وجغرافيا الوطن الضائع.
المقارباتُ المُنصفة يتعذَّر عليها الفِكاك من إلزاميّة الضمير وقيوده. وإن كان مقطوعًا بأنّ المأساة بدأت من الغَرب والعثمانيين، ورُسِمَت ملامحُها على إيقاع الهجرات المُنظَّمة، ثمَّ اكتملت بالتقسيم محمولاً على وحشيّةٍ أنجلوساكسونية وهشاشةٍ عربية؛ فإنَّ فصلَها الراهن يُداخله مُتغيّر جديد، إنه الانقسام. لم تعُد محفوظاتُ الماضى وحدها صالحةً لإبراء الذمَّة فى الحاضر، وقد أُتِيحَت ميادينُ النضال على آخرها، من أشدِّه راديكاليّة إلى أنضجه براجماتية. خُرِّبَت بيروتُ انتصارًا لقضية العرب الأولى وفصائلها الهادرة، ودُفِعَ الأردنُ إلى حافةٍ سوداء، وقُصِفَت تونس، وتكبَّدت عواصمُ أخرى تكاليفَ الأمل والولادات المُتعثّرة. الإنجازُ الوحيد يومَ أن عاد «عرفات» بالشال والبندقية إلى فلسطين، وصِيْغَ تصوُّرٌ أعقلُ للمقاومة بالحياة بدلاً من المُقامرة بالموت. قبلها كانت الانتفاضةُ الأُولى تعبيرًا عن حلمٍ غامر تعهّده الأطفالُ بالتهجئة والتكرار الدؤوب، وبقدر ما فيه من ضعفٍ ويقين؛ كانت ثمارُه ليّنةً وبذرتُه عصيّةً على الكَسر؛ فانتصر الحفاةُ العُراة على آلة القتل، وترصَّص أولُ مِدماك فى جدار الدولة/ الأُمنية البعيدة.
كان اتفاق أوسلو تحوُّلاً عميقًا فى السياق والأثر. قُل عنه ما شئتَ بوَعى الراهن؛ إنَّما فى خريف 1993 كان قفزةً تُلامس الخيال، وتُشبه الحياةَ التى تمنَّاها أطفالُ الحجارة؛ وربما لهذا لم يُرحِّب به المُغرمون بالموت من الطرفين. يصحُّ منطقيًّا أن يُعاديه القوميِّون والتوراتيون فى إسرائيل، وأن يروه كَسرًا للحقّ المُقدَّس الذى استُنطِقَت به التوراة كذبًا، أو لمركزيّة الحلقة «اليهودية الصافية» فى تأسيس الصهيونية؛ لكن ما لا يصح أن يتمرَّد المطرودون، فى فلسطين وخارجها، على وسيلةٍ تُبشِّر بالغاية؛ وإن بدت بعيدة. وهكذا تلاقى الأُصوليِّون فى الناحيتين على إحراق الورقة المُحاطة بالبارود والنار. كانت مصلحة اليمين الإسرائيلى أكبر فى إفساد الجولة، ولم يُقصِّر فى انتهاج أشرس المسارات لتصفيتها، وإنْ باغتيال رئيس الوزراء الذى أبرمها؛ لكنّ الطرف الآخر لم يتأخَّر فى الإسناد، فكان تصعيدُ الهجمات والعمليات الانتحارية بالأرض المُحتلّة، وفيما وراء الخط الأخضر، القشَّةَ التى تعلّق بها المُتطرِّفون للنجاة من أمواج التسوية المُحتمَلة. وإلى اليوم يتكرَّر التحالفُ عفوًا وقصدًا؛ كأنَّ تيّارًا عابرًا للقوميّة، يُفرّقه المُعتقَد والثقافة والانتماءات والمصالح، وتُوحِّده الرغبةُ فى إبقاء المقتلة مفتوحةً والملف فوضويًّا ونازفًا.
جرت الانتخابات فى العام 2006، وبعدها بشهورٍ وقع الانقسام. صورُ العداوة والتنكيل بالمُنافسين ما كانت تقلّ فداحةً عمّا يفعله الاحتلال، حتى أن عشرات الفلسطينيين ألقاهم فلسطينيون من فوق بناياتٍ فلسطينية، وسُحِل بعضهم فى شوارع غزّة. سبعةَ عشر عامًا ومئات اللقاءات والوساطات، وما انتصر الفُرقاء للأرض والبشر، على أهوائهم وأيديولوجياتهم والتحالفات المُضمَرة. كانت الجولةُ الأخيرة فى مدينة العلمين شمال غربى مصر قبل ستّة أشهر، غابت حركتان وحضرت الأغلبية، وانفضّ الجميع على كلامٍ طيِّب ووعودٍ ورديّة، تبخَّرت جميعًا كما تبخَّر أوسلو. السلطةُ ورثت فتح، أو الحركة ورثت السلطة؛ المهمُّ أن عقل «رام الله» يُقارب الأمور من زاوية المقاوم الذى جرّب السلاح فأراحته السياسة، و«حماس» وحُلفاؤها اختبروا الحُكمَ على قاعدة القوّة؛ فارتبكوا فى الأمرين معًا. من قبل أن تأخذ «القسَّام» اسمها كانت مشروعًا للنضال المُسلَّح، أسَّسته على مُرتكزٍ عقائدى يرى فلسطين «وَقفًا إسلاميًّا» ولا يرضى بأقلّ من الكعكة كلها بين النهر والبحر؛ وهكذا قضت فى تأسيسها على فكرة أن تكون شريكًا دبلوماسيًّا، أو مُؤهَّلاً للانخراط فى مباراة تفاوضية طويلة وشاقة، إمَّا أن يربح طرفاها معًا أو يخسرا معًا، ولا سبيلَ لحَسمها بالضربة القاضية أو الإلغاء الكامل.
بدا الارتباكُ واضحًا منذ صعدت الحركة للإدارة بأغلبيّة شعبية. لقد نشأ التناقضُ من أن السلطة من مُخرجات أوسلو، والانتخابات نفسها تحت ظلِّ المُحتلّ وقبوله، وثمّة التزامات تفرضها تركيبةُ الحُكم الذاتى وإن لم تُعجِب البعضَ أو رأوها تفريطًا. عمليًّا اعترفت «حماس» منذ الترشُّح بفكرة الدولتين، أى بالجار الإسرائيلى الذى يتغوَّل على فلسطين، وتتحدَّد المهمَّة بإرجاعه عن خُطوط الوطن، لا بطرده المُستحيل من الجغرافيا كلها. وتعذَّر عليهم التوفيق بين أخلاقيّة المقاوم الأُصولى، وبراجماتيّة المفاوض الواقعى، كما تعذَّر أن يعملوا من داخل السلطة وهى ابنةُ مُنظّمة التحرير، بينما لا يُقرّون بأُبوَّة المنظمة وتُنكرها أوراقُهم الثبوتية. تطلَّب الأمرُ عقدًا كاملاً وثلاثة حروب حارقة ليعترفوا بالخَلَل؛ فأطلقوا ورقةً استراتيجية بالعام 2017 أعلنت فكّ الارتباط مع الإخوان والقبول بدولةٍ على حدود يونيو 1967، سرعان ما تبرَّأ بعضُهم منها، ثمَّ رفعوها، ثمّ عادوا لإسقاطها، وحتى «طوفان الأقصى» تردَّدت تصريحاتٌ مُتعاكسة بين مَن يقبلُ بالدولة دون اعترافٍ بالعدو، ومن يقبل الدولتين، ومن ينفى الخيارين. إنها حالةٌ من السيولة الكاملة، وغيابٌ للرؤية، وغرامٌ بإمساك العصا من المُنتصف دائمًا.
التحريرُ فى خطاب الفصائل يُوازى التهجير فى خطاب إسرائيل، والعالم لن يقبل أحدهما؛ لو افترضنا إمكانيّة تحقيقه أصلاً. لا يُترجِم الخيارُ الصفرىُّ صلابةً مبدئيّة وقيميّة لدى المُحتل والمُقاوم؛ بقدر ما يكشف عن نزوعٍ لتجميد الصراع، والتمسُّك بإدارته تحت السقف الراهن، بدلاً من التطلُّع إلى حلِّه تحت سقفٍ جديد. نتاجُ ذلك أن يمضى الطرفان فى حربٍ لا آخر لها، أو يُبرما هُدنةً طويلة على معنى إبقاء الوضع القائم، وحصيلةُ الخيارين أن يظلّ السلاحُ حاكمًا، بالإيجاب أو السلب، وأن تختنق السياسةُ بمعناها الديناميكى كمدخلٍ للتوفيق بين المُمكن والمأمول، واستخلاص مساحةٍ وسيطة يلتقى عليها الخصمان. أمَّا السلطةُ الوطنية فتبدو عاجزةً تمامًا؛ لأنها فى البناء والفلسفة لا تنسجم مع فكرة الحرب الدائمة، ولا بديلها من الجمود الدائم؛ فضلاً على هشاشتها وتناقضاتها الداخلية، ما يُعطّلها عن إنجاز هيكلةٍ واجبة للمرافق والقيادة، وتجديد خطابها فى النطاق العام/ مع تل أبيب والعالم، وفى النطاق الوطنى/ احتواء كلّ التلاوين وإعادة بناء الإجماع. وإذا كان «عباس» فُوجئ بالطوفان دون إخطارٍ أو تنسيق؛ فقد يُفاجَأُ بتفاهماتٍ لا يكونُ طرفًا فيها، أو قد يُفاجئ الاحتلالُ الجميعَ بتبريد الجبهة ووَقف العدوان دون اتّفاقٍ أو إعلان، ما ستستجيبُ له «حماس» حَتمًا بغرض التقاط الأنفاس وتجميع صفوفها وقواها، والبحث عن تنظيم القطاع، أو ما تبقّى من أطلاله بتعبيرٍ أدقّ.
على ما سبق؛ فالمأزقُ أن فلسطين ليست فى مُنازلةٍ ثنائية مع عدوّها. إنّه صراعٌ ثلاثى مُركَّب: السياسةُ مع السلاح، والأُصوليّة مع المدنيّة، والتكتيكُ مع الاستراتيجية. حماس والسلطة والاحتلال؛ كلٌّ منها يختصم الطرفين الآخرين، واستمرارُ الحرب يصبُّ فى صالح إسرائيل والفصائل المُسلَّحة، ووقفها بعيدًا عن مُنظّمة التحرير يُعيد القضيةَ عقودًا للوراء، ويحرمها من توظيف المحرقة التى دُفِعَ ثمنُها بآلاف الأرواح فى خدمة مشروع التحرُّر. هنا لن تكون العُقدة فى تل أبيب، بل فيما بين رام الله وغزّة. يقول فريق «أبو مازن» إن المُنظَّمة المُمثل الشرعى الوحيد للشعب، وهو قَولُ حقٍّ يحتاج لتنشيطٍ وتطوير، ويُمارس فريق «السنوار» وصايةً عملية على العنوان الوطنى. وبعيدًا منهما ثمّة مَن يستثمرون فى ارتدادات «الطوفان» لتكون أداةَ تفريقٍ لا تجميع.
أحد قادة حماس اتّهم السلطة ورئيسها بالخيانة. ولم يكن موقفًا عارضًا للأسف، ولا اعتُذِر عنه أو حُوسِب قائله. بعدها عقدت الحركة اجتماعًا مع أربعة فصائل تابعة لها فى بيروت، ولم تدع «فتح» ولا أشركت المُنظّمة ومُمثّلى السلطة. وقبل أيامٍ تجدَّد اتهام الخيانة على لسان داعيةٍ رجعى مُتطرَّف اسمه ماهر حمود، أحد مُؤسِّسى الجماعة الإسلامية/ إخوان لبنان، ويُدير كيانًا مُلفّقًا ومشبوهًا بمُسمَّى «اتحاد علماء المقاومة»، ينخرط فيه السنة والشيعة تحت عباءة «محور الممانعة». أثار الحديثُ ضيق الفتحاويين فى بيروت، ونُظِّمت فعالياتُ احتجاجٍ أعادت للأذهان مخاطر الاشتباك الدامى فى مُخيم «عين الحلوة» قبل شهور. ولا يُمكن صَرف النظر عن استبداد حزب الله بالبيئة اللبنانية، وهيمنته على كلِّ فعلٍ حركىّ أو دعائىّ يخص فلسطين وإسرائيل. والمعنى أنّ لُغةَ التخوين والاستعلاء قد صارت سلاحًا فى معركة تأميم القضية واحتكارها، وبينما يُستبعَد أحدُ الأطراف الأصيلة فى النزاع، يُرهَنُ الملفّ لفائدة تيَّارٍ شيعى يأتمر فيه بأجندةٍ «فوق عربية»، ولا يراه إلا ورقة للمُناورة مع واشنطن وتحصيل مكاسب لقيادة المحور. ويستند فى ذلك إلى عاطفيّةٍ جارفة بين العوام، وإلى سذاجةٍ تُكبِّل عقولَ اليسار والقوميِّين بالمنطقة، حتى أنهم يصطفُّون بجانب ميليشياتٍ راديكاليّة تُخاصِم الدولة الوطنية، وتضع الأُمميّة المذهبية فوق القومية، ويقع بطشُها على حزامها القريب قبل العدوّ البعيد.
يتصرَّفُ المحور الشيعى كما لو أنّه استخلص الحقوقَ وأعاد التوازن للصراع المُختلّ، وتتصرَّف «حماس» كما لو أنها انتصرت نهائيًّا على الصهاينة وحرَّرت الأرض. والخطيرُ فى مصادرة القضية من نطاقها الإنسانى والأخلاقى؛ أنها تصير عُرضةً للاستقطاب والتضرُّر من مُمارسات محور الميليشيا، وإن كانت فوائض المشاعر مائلةً إليهم اليوم؛ فقد تميلُ عنهم عندما يتكشَّف للناس أنهم يُتاجرون بالمأساة، أو يَسعون لصَرفها فى رصيد لُعبتهم السياسية العريضة، من سوريا إلى لبنان والعراق واليمن، وإزاء مصالح إقليمية أو توازناتٍ دوليّة تُدار مُفاوضاتها فى غُرفٍ مُظلمة. هكذا قد ينقلبُ التضامن نقمةً على تجَّار الشعارات، لا سيّما أن دعائيَّة «وحدة الساحات» تفكَّكت عمليًّا، وبدا أنها خطابٌ تعبوى،ٌّ وما بُنِيَت إلّا لفائدة طَرفٍ بعينه، لا لفلسطين أو غيرها من ساحات المُواجهة العربية مع العدو.
من المُفارقات أن فلسطين التقت إيران فى بداية مشوارهما بكأس آسيا لكُرة القدم، فسحقَ الفُرس مُنتخبَ القضية برباعيّةٍ لهدفٍ واحد. هى رياضةٌ ومُنافسة بالطبع، وليس مطلوبًا أن يخسر فريقٌ لفريقٍ تحت لافتة العقيدة أو المُؤازرة. لكنْ لعلَّ فى الملاعب ما يُفسِّر غوامضَ الميادين، إذ لا ضامنَ لأن تكون الحربُ بعيدةً من منطق التنافس والمصالح المُباشرة. الذى هزم فلسطين فى الكُرة قد يهزمها فى الحرب والسياسة؛ ولا هزيمة أقسى من استلحاق القضيّة العادلة بأجندةٍ مُلوَّنة، أو الاستثمار فى الفتنة وتغذية الانقسام، وأن يتقدَّم الكَيد والمُزايدة على حسابات السلاح والدبلوماسية، وتُطعَن عواصمُ التعقُّل برطاناتٍ وقحةٍ ومُتبجّحة، وهى خطُّ الدفاع الأخير أمام المرمى الفلسطينى. فكأنَّ الذين يشطبون السلطة من تشكيل الفريق، ويُعمِّقون حُفرةَ التضليل تحت أقدام الدفاع، يُفرِّغون الملعبَ من عناصره الفاعلة؛ استئثارًا بالمباراة، أو تحضيرًا للمُقايضة بها.
اغتالت إسرائيلُ قبل يومين خمسًا من الحرس الثورى فى سوريا، واثنين من حماس. يُضافون إلى رضى موسوى ووسام طويل وصالح العارورى وعباس رعد، وعنصرين من إخوان لبنان وقرابة مائتين من حزب الله. المقتلةُ دائرةٌ والخطابةُ زاعقةٌ وجنون تل أبيب لم يخفُت أو يرتدع. لا أحدَ فى فلسطين يستحقّ وصفَ الخيانة، إن كان مُنحازًا للسياسة أو حتى خائفًا من الموت ومُتمسِّكًا بالحياة. الخونةُ هم الذين يرمون غيرَهم بالتُّهمة وما قدَّموا شيئًا للقضية ولا أهلها. الفصائلُ مُلزمةٌ باستنقاذ نفسها على وجه السرعة من مُستنقع الدعايات الفجَّة، ومن نضالات الحناجر التى يُطربها مرأى الدم ويزيد حماستها. فلسطين عنوانها مُعلَنٌ ومعروف، وطريقها لا يمرُّ من بيروت ولا طهران ولا صنعاء أو دمشق، فلسطينُ تبدأ محنتُها وتنتهى بين النهر والبحر، وآمالُها أيضًا لا تتجاوز خريطتها، ولا تنشبكُ بخرائط الآخرين وأجنداتهم. والذين يموتون على تراب غزَّة الطاهر؛ اختاروا موتَهم أو أُجبروا عليه؛ إنما يسكنون أرض فلسطين وتُحلِّق أرواحُهم لأجلها، والذى يُفرِّق بين شهيدٍ مضى وشهيدٍ مُؤجَّل، يطعنُ القضيةَ فى قلبها. يُعرَف الرجالُ بالحقِّ لا العكس، والحقُّ أن تعلو الغايةُ وتدنو الوسائل، والبنادقُ والفنادقُ والمناصب والمكاسبُ كلُّها محضُ وسائل، لا قيمةَ لها إلا بقدر ما تُقرِّب الفلسطينيين من فلسطين، وليس بقدر ما تُبعِدُ فلسطين عن نفسها وبَنِيها وحواضنها، وترهنها فى مُقامراتٍ مُعمَّمةٍ ومُلتحية، أو مُغرمةٍ بإفناء الدول القائمة، وتدَّعى أنها صادقةٌ فى البحث عن دولةٍ ضائعة.