حازم حسين

المحبّة وقد تجسّدت بشرًا

الخميس، 04 يناير 2024 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان ملفوفًا بقماطٍ ومُضّجعًا فى مذود؛ هكذا قال الملاك للرُّعاة الذين عاينوا ميلاده، بحسب إنجيل لوقا.. فى الفكرة لم تكن الوفادةُ عاديةً، وفى التفاصيل المُتاحة كان شىء من الاستثناء يُكلِّل رأسَ الصغير، كما كُلِّل لاحقًا بالشوك. أرسلت السماءُ رسالتَها على صورةٍ بشرية، لا بالبرق والرعد ولا فى طيف ملاك، وتلقَّاها الذين اتّصلت قلوبُهم بالله قبل أن تتعثَّر عقولُهم فى قوانين الواقع وتخرُّصات الشياطين، وصدَّ عنها فى الزحامِ من اعتادوا الصدود عن كلِّ نورٍ وخير. لا يختلف مشهدُ الماضى عمّا يحدث الآن؛ غير أنه قديمًا كان المسيح يضع قدمَه فى الحياة، وغُشومة الرومان وضِيق أُفق اليهود يتضافران؛ على عدواتهما الصاخبة، فى تلويث هواء فلسطين، واليوم يُلوِّثها ورثتُهم بالعار والدم، ويمنعون أهمّ نتاجات الجغرافيا المُقدَّسة من العودة لموضع مولده، هناك فى «بيت لحم» التى انطفأت أنوارها وخفتت قُدَّاساتها، بينما يتردَّد اسمُه فى أنحاء العالم عاليًا، كما تتردَّد مظلمةُ الفلسطينيين ووجيعتهم؛ رغم كلّ ما يحيق بهم من قتلٍ وتنكيل، وما يُمارسه جلّادوهم من خصومةٍ مع الدين والدنيا والسويَّة الإنسانية.
 
عيدُ الميلاد المجيد ليس مُناسبةً دينية فحسب. صحيح أنه يخصُّ المسيحيين بالنسب المباشر؛ إلّا أنه يتَّصل بالبشر جميعًا من نواحٍ إيمانية وروحية وأخلاقية مُتداخلة وشديدة الثراء. إذ المسيحُ عمودُ الخيمة لأبناء كنيسته، وهى ما تزال بيت الاعتقاد الأكبر بين البشر. والمسلمون مأمورون بالإيمان به، وبإجلال قيمته العقائدية؛ كأحد الأضلاع الركيزة فى تصوُّرهم عن علاقة السماء بالأرض. ثمّ بقيَّة المُعتقدات الفلسفية التى لا تنقطع عمّا بشَّر به من خلاصٍ وما أذكاه من محبّة. أمَّا إحياءُ الذكرى فإنه غير محصورٍ فى قيمة المُحتفَى به، ولا كثافة تابعيه؛ بل فيما يُمثِّله من تجديدٍ دائم لفكرة الفِداء والإيثار، والحلول الكبرى التى تتفتَّح من الطين فجأة؛ كأنها زهرةٌ عادية فى موسمٍ عابر. وربما لا تنطوى قصّة إنسانية على مُثُل وإلهامات، كما فى حكاية ابن العذراء؛ وقد جاء مُكمِّلاً للناموس لا ناقضًا، واحتمل من خراف بنى إسرائيل الضّالة ما يفوق طاقةَ البشر، ويُوجِب العداوة؛ إلَّا أنه ظلَّ لَيّنًا رفيقًا، وكلما اغترف الناس من محبَّته؛ زادت ولم تنقص.
 
يحلّ المسيحُ فى القرآن حُلولاً كريمًا، وبالإجلال نفسه فى قلوب المصريين على التحديد. ولم يكن الاحتفال بعيد الميلاد غريبًا على مصر، ربّما تصاعدت موجتُه فى فترةٍ وانحسرت فى غيرها؛ إلّا أنه كان طقسًا راسخًا ولا يغيب عن رُوزنامة البهجة المصرية، وقد شهد أوجَ بهائه فى زمن الفاطميين، على ما يُورِد المقريزى فى كتابه «المواعظ والاعتبار»؛ إذ كانت تُصنَع فيه الفوانيس والشموع لتُزيِّن واجهات البيوت والحوانيت، وتُوزَّع الحلوى والسمك؛ ثمَّ ساءت أحوال الاقتصاد فتراجعت مظاهر العيد، وتزامن ذلك مع دولة الأيوبيين، والحرب التى سعّرتها تجاه ميراث الدولة الفاطمية فى الاعتقاد والاجتماع، ومن بعدهم المماليك الذين أربكت هويَّاتُهم المتصارعةُ ما كان من وفاقٍ وانسجام بين مُكوِّنات الهويَّة المحلية. غير أن الانغلاق الذى يُلامس العداء لم نعرفه إلا مع سبعينيات القرن الماضى، وفى زمن الصحوات الأُصوليّة، والضخّ المالى الكثيف من الحواضن الرجعية فى شرايين التطرُّف والجُمود، ثم اشتدّ فى زمن الإخوان، وكافحت مصر بعد إطاحة الجماعة لترميم ما صنعته من شقوقٍ فى الروح، وما شجَّعت آخرين على تشقيقه. ولعلَّنا الآن فى حال النقاهة، وقد تجاوزنا كثيرًا من مُسبِّبات المرض.
 
لقرونٍ طويلة، كان المصريّون جميعًا فى قُيود الأَسر والاختطاف، ولا فارقَ بين أغلبية وأقلية. لقد ظلّوا مُحافظين على وشائج قويمة تربطهم رغم تمايُزات البيئات والعقائد؛ لكنهم لم يستخلصوا حقوقهم الكاملة وقد تبدَّل عليهم مُحتلّ بعد آخر. ربما بدأ التحوُّل فيما بعد استتباب الأمر لمحمّد على، مطلع القرن التاسع عشر، فاستقدم مُعاونين مسيحيِّين من أوروبا وبدأ تأهيل طبقة من المصريين، وإن ظلّ المسار بطيئًا. وساعد ذلك على استعادة رُوح مصر بفضل الذخيرة الحضارية الراسخة فى النفوس، وطموح أصحاب الأرض ونضالاتهم. وكانت الذروة مع ثورة 1919؛ إذ تعانق الهلال والصليب، وخطب القمص سرجيوس على منبر الأزهر، وكان مكرم عبيد كتفًا بكتف مع سعد زغلول فى الوفد والمنفى، وفيما تلا ذلك تقدَّم أقباطٌ لرئاسة الحكومة، مثل بطرس غالى ويوسف وهبة، وشغل آخرون مواقع وزارية عدَّة. وسارت العلاقة بعد ثورة يوليو على أحسن ما يكون؛ بل إن البابا كيرلس كان بمنزلة الصديق المُقرَّب للرئيس عبدالناصر، وبادر الأخير إلى بناء الكاتدرائية الجديدة وقتها فى العباسية. لكنّ التحوُّل الصارخ وقع فى السبعينيات، وقد فتح السادات الباب للإخوان؛ ولم يتحسَّب لخطابهم الاستعلائى واستثمارهم فى الفتنة والانقسام. بدأ الأمر على استحياء فى الخانكة 1972، واستفحل فى الزاوية الحمراء 1981، ومن بعدها هاج المُتطرِّفون وسرَّبوا رسائل جارحة للمجال العام، حتى وصل الوضع إلى التكفير كما فى حال مُجرمٍ حليف لهم اسمه «أبو إسلام»، وإلى تحريم تهنئتهم بالأعياد كما أفتى كيانٌ مشبوه أنتجته الجماعة باسم «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» وضمّ فى عضويته خيرت الشاطر وصفوت حجازى. وكانت الذروة عندما جاهروا بالكُره والإرهاب بعد 30 يونيو، فأحرقوا نحو 90 كنيسة ودار خدمة، من جُملة مئات الأماكن التى أحرقوها فى المحافظات.
 
لملمت الدولةُ سريعًا ما أحدثه الإخوان وبعض السلفيين من فوضى. كانت الوحدة الوطنية لعقودٍ شعارًا ذائعًا، لم يمنع بعض المشبوهين من السباحة فى ماء المجتمع وتعكيره؛ لكنها خلال السنوات الأخيرة صارت مُمارسةً عملية. يتجلَّى ذلك مثلاً فى قانون بناء الكنائس، وقد ردَّ الاعتبار لقطاعٍ مُعتبَر من المواطنين حُرِموا طويلاً من حقوقهم، وعالج سخافات «الخط الهمايونى» الذى فرضه المُحتلّ العثمانى البغيض قبل أكثر من قرنٍ ونصف القرن. وليس من الشكليّات أن تُرسِى القيادة السياسية تقليدًا ما عرفته مصر من قبل، بأن يزور الرئيس قُدَّاس العيد ويُهنِّئ المسيحيين بشخصه، لا عبر مندوبين أو برقيّات. جاء السيسى مُنتخَبًا فى يونيو 2014، وبعد 6 أشهر كان بين المُحتفلين فى العباسية، ولم تنقطع العادةُ إلَّا فى زمن كورونا. ومن هذا الطقس أعلن فى 2017 بناء كاتدرائية جديدة بالعاصمة الإدارية، واحتفل معهم فيها بعد سنة. والمُؤكَّد أن ارتباطاته الرئاسية لو سمحت بعد غدٍ؛ فسيكون بينهم للمرة الثامنة، فضلاً على زيارتى تعزية فى 2015 و2017.
 
أُمثولةُ المسيح صِيْغَت لتكون عِظةً خارج الزمان والجغرافيا. كأنَّ فيها من الرمزية والتأويل ما يفتحُ قوسَ الدلالة إلى ما لا نهاية، ويتجاوز مسائل الاعتقاد والأعراق والأوطان فى حدودها الضيّقة؛ لكنه يُوقِّرها فى معانيها العميقة المُعبِّرة عن الثراء والتنوُّع، وعن التمايز الذى يُغنيه التكامل، والاتحاد الذى يحميه التعدُّد. وردت القصَّة فى إنجيلى متَّى ولوقا، وفيهما أن الملاك جاء لمريم مُبشِّرًا بولادتها بقوَّة الروح القُدس، ثمّ تراءى لخطيبها يوسف النجار ليُحصِّن المُعجزة من المطاعن ويُؤمِّن لها حاضنةً رفيقة. والدرس الأول أن المسيح المُنتسب للناصرة والمعروف بها وُلِد غريبًا فى بيت لحم، وعلى القشِّ الخشن فى مَعلَف البقر، وأول المُتردِّدين عليه رُعاةٌ فُقراء ومجوس مُحمَّلون بالهدايا. والمعنى أنه ينتمى للبشر فى اتّساعهم أينما حلّوا، وليس للأرض فى ضِيقها وثباتها، وأن فيه حقًّا للمُعدَمين والأغنياء، وللمُؤمنين والوثنيِّين. وبينما كان اليهود يترقبون «الماشيح» أو «المسيا» ملكًا من سلالةٍ رفيعة، وعلى حرير وذهب؛ جاءهم من هو أَسمى من الملك بأبسطِ صُوَر الحضور وأشدّها تواضعًا. ثمّ تأكّدت غربتُه بحَفرٍ غائرٍ فى الوعى، عندما هربوا من «هيرودس» الساعى وراء البشارة فى كلِّ رضيع، وكان الهروب من حظِّ مصر، ومفتتح الرباط الوثيق بين النيل والمسيح.
 
دخلت العائلةُ المُقدَّسة لمصر من ناحية سيناء، كان ذلك فى مطلع شهر يونيو. وقضت فيها نحو 30 شهرًا، عبرت خلالها نحو خمس وعشرين محطّة و3 آلاف كيلومتر. وقتها كان صغيرًا لم يتكلم لُغةَ السماء بعد، فلم تعرف مساراتُ الرحلة عظيمَ قدره، ولا عرف الناس؛ لكنّ المحبَّة من فِعل القُلوب، وقد تندلعُ شرارتُها دون سببٍ أو إحاطة. ومن يومها نُقِشَت محبَّتُه فى كلِّ أرضٍ وطأها، كما حُفِرَت قدمُه فى صخرة سخا الماثلة إلى اليوم فى كفر الشيخ. ولعلّ الزيارة المُباركة من آثاره المادية القليلة فى العالم؛ بل إنها تفوق فى قياسها وشواهدها ما تحتفظ به فلسطين نفسها من تذكارات المسيح. لقد تبقَّت بركتُه العظيمة فى الوادى، وطبعت الروحَ المصريةَ بشىءٍ من الأُلفة والسكينة، وأخذت منها قَبَسًا صحبه فى العودةِ لنهر الأردن. وهكذا كان للمصريين نهجُهم الخاص فى المسيحية، وكان لكنيسة الإسكندرية لاحقًا ما يُميِّزها عن قريناتها، وقد تعهَّدت كثيرًا من أعمدة الاعتقاد، وتركت أثرها فى اللاهوت والنُسُك، وأهدت الرهبنةَ للعالم مُنتَجًا مصريًّا خالصًا.
 
الاحتفالُ اليوم ليس وقوفًا مع العذراء فى المذود، ولا دفعًا لجنود هيرودس ونكايات اليهود. بل إن المسيحيّةَ المُبكِّرة لم تُقِم طقوسًا للعيد؛ وإن اعتُبِرت بشارةُ الرُّعاة أوَّلَ إحياء للمناسبة. وفى التأصيل قد يكون الموعد محلَّ خلافٍ؛ إذ قال فريقٌ إنه فى نوفمبر، وآخرون عَدّوه مع الاعتدال الربيعى، واستخلص يوحنا ذهبىّ الفم من بعض الإشارات أنه فى ديسمبر، وعليه اتفق المجتمعون فى نيقية عام 325، وسارت الأمورُ حتى فرَّق تصحيح التقويم الرومانى بين الشرق والغرب، فظلَّ الأول على الأصل اليوليانى وتقويم الشهداء، وسار الآخر للتعديل الجريجورى. أمَّا فى السنين فيُرجَّح أنّ المسيح وُلِد قبل الموعد المعروف بما بين سنتين وستِّ سنوات. والمقصود أنَّ أُمثولةَ الميلاد إذ تُستحضَر اليوم؛ فإنها ليست اقتفاءً تاريخيًّا لحادثة الولادة بما فيها من معانٍ دينية، بقدر ما أنها استذكارٌ للرسالةِ واستحضارٌ للرمزيّة، بكل ما فيها من تجلِّياتٍ سماوية، وانحرافٍ عن قانون الطبيعة، وغُربةٍ عن المَظهر دخولاً فى الجوهر، وعن النَّفس حُلولاً فى الآخر، وعن آفات الكِبْر والتجبُّر والعناد؛ انتصارا للتواضع والهشاشة والمُطاوعة.
 
أمَّا فى الطقوس؛ فقد اكتسى العيدُ برداء الثقافات التى حلَّ عليها. تُحافظُ الكنائسُ على القُدَّاس والصلوات؛ لكنَّ الهيئة الاجتماعية اتَّخذت بُعدًا حضاريًّا مُلوّنًا بالألوان الإنسانية. كانت تيمةُ الشجرة مثلاً فى ألمانيا قبل المسيحية، واختلطت بها منذ القرن السابع، ولم تنتشر إلَّا بعدها بثمانية قرون، ولم يكن مُرحَّبًا بتزيين الأشجار فى العصور الوسطى. بينما تتباينُ المجتمعات فى موسيقاها وترانيمها، بل وموائدها المُمتدّة من الأسماك واللحوم إلى الإوز والديوك، وما هو أدنى بحسب الظروف والأحوال. وإلى ذلك؛ صار الحدث مَوسمًا اقتصاديًّا رفيع القيمة، تنشطُ فيه التجارة والأسواق، وتزدهر مبيعات الملابس والهدايا والأطعمة وعوائد الخدمات والترفيه، وبعض الإحصاءات مثلاً تُقدِّر أنّ رُبع إنفاق الأمريكيين الشخصى طوال العام يكون فى الميلاد ورأس السنة، وربما لا يختلف الأمرُ فى بقيّة البلدان. صحيح أن ميلاد المسيح فى أصله فرصةٌ للعِظَة والاعتبار ورفع الأبصار للسماء؛ لكنّ ذلك لا يمنع أن يكون مدخلاً للبهجة والتقاء البشر فى حيِّزٍ صافٍ من الضغائن والحروب والتباينات المُوجِعة. لا سيَّما ورسالته أن «أحبّوا أعداءكم»، والمحبَّة تتحقَّق لو كتمنا الشِّقاقَ والعداوة يومًا؛ لنحتفل معًا، على أمل أن يسدَّ التكرار واعتياد التقارب ما تفجَّر فى وجوهنا جميعًا من براكين الكُره والبغضاء.
 
حلَّ المسيح مُباركًا فى الأرض، ولمّا تزل بركته حاضرةً. وإذ نُهنئ المسيحيِّين فى مصر والعالم بالمناسبة الجليلة؛ نُشاركهم بهجةَ العيد واستلهامَ ما تركه فى الأرواح والعقول. لقد كان ولادةً إنسانية جديدة، وتحوُّلاً وجوبيًّا عن جفاف اليهودية وانحرافات اليهود. ومهَّد الأرض لانتقالٍ أكثر أُلفةً وتسامحًا، يُروّض شرور البشر ويُقيّد أنانيّتهم بالفداء وإيثار الآخرين.. عيد ميلاد مجيد، ومُشاطرةٌ صادقة لأبناء يسوع فى بهجتهم، ووردةٌ لا تذبل أبدًا فى محبّة العذراء وابنها، وهو المحبّة وقد تجسَّدت بشرًا.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة