سأل العندليب الأسمر الفنان عبدالحليم حافظ، الكاتب والناقد الفنى جليل البندارى: «هل تحضر حفلاتى؟، فأجابه: «لم أسمعك إلا فى حفلة واحدة»، فسأله عبدالحليم عن رأيه فيها، فأجاب البندارى: «رأيتك أنت والميكروفون قطعة واحدة»، رد عبدالحليم: «لأنى أتفاعل مع اللحن الذى أغنيه»، حسبما جاء فى الحوار الذى أجراه البندارى مع عبدالحليم، ونشرته مجلة «آخر ساعة، عدد 1302»، فى 14 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1959.
كانت هذه الإجابة مدخلا لمناقشة بين الاثنين حول الغناء ومطربيه، سأله البندارى: «أنت لا تتصرف فى الغناء؟»، فرد العندليب: «إننى درست الموسيقى، وأستطيع أن أتصرف كما أشاء، ولكننى ضد هذا المبدأ، وظيفتى هى أن أنقل للناس أحاسيس المؤلف والملحن بصورة صادقة، وأنا أعتقد أننى مهما تصرفت فى اللحن، فلن أتعمق فيه أكثر مما تعمق الملحن، وإعادة الجملة التى أغنيها تدخل فى باب التطريب واستعراض الصوت، والتصرف عادة هو أن يأخذ المطرب جملة معينة من اللحن يعلو بها مرة ويهبط بها مرة أخرى ثم يطولها تارة، ويقصرها تارة ثانية، فى حين أنه يغنى جملة واحدة أعطاها الملحن معناها الموسيقى التعبيرى الذى يجعل المستمع يحس بمعناها على الفور، والاتجاه الحديث فى الغناء العالمى لا يدخل فيه مطلقا هذا اللون من التصرف، وأعتقد أننا نتقدم فى كل شىء، التأليف والألحان والأداء».
قال له البندارى: «أم كلثوم تتصرف كثيرا فى الألحان ولم نشعر معها بأى ملل»، رد عبدالحليم: «أم كلثوم معجزة، وعندما تتصرف فى لحن من الألحان تتصرف بذكاء خارق، باختصار أنا لا أوافق على مبدأ أن يتصرف المطرب أو المطربة فى اللحن، باستثناء أم كلثوم لأنها كما قلت معجزة من معجزات هذا العصر».
انتقل البندارى إلى قضية أخرى وهى «أغانى الأم»، فبالرغم من أن عشرات المطربين والمطربات غنوا للأم، إلا أن عبدالحليم يرى أن أنجحها هى أغنية «ست الحبايب» التى لحنها محمد عبدالوهاب لفايزة أحمد، وعندما سأله البندارى، لماذا لم يساهم بغنائه للأم؟، رد عبدالحليم: «أفضل أن أغنى لليتامى الذين عاشوا فى هذه الدنيا بلا أم، وحين أستمع إلى فايزة أحمد وهى تقول: «يا ست الحبايب تقومى، وتصحى، وتنامى، وتشقرى»، كل هذه المعانى تجعلنى أشعر بالحرمان من أسمى عاطفة فى الوجود، عاطفة الأم، أنا أريد أن أغنى لحنا لهؤلاء الذين حرموا من حنان الأم مثلى، وعندما أغنى هذا اللحن، سوف أغنيه لكل القلوب التى تشعر بهذا الحرمان».
وعن شروط نجاح الأغنية، قال عبدالحليم: «الكلمات الجيدة يجب أن تصادف لحنا جيدا مثلها، فإذا انضم اللحن إلى الكلام تجدهما فى حاجة إلى صوت واع معبر ليصورهما تصويرا دقيقا، والصوت هنا يلعب دورا مهما فى نجاح الأغنية، فإذا لم يحس المطرب باللحن بما فيه من انفعالات وقوة وضعف فإنه لا يستطيع أن يقدم للناس الترجمة الحقيقية لكل هذا، مثلا إذا أعطيت قطعة موسيقية من أروع ما وضع تشايكوفسكى أو غيره من الموسيقيين العالميين لعازف لا يحس بها ولا ينفعل معها، فتأكد أنه سيشوه روعتها فى آذان الناس، ولن يحسوا بها أبدا حتى لو كانت من أعظم الأعمال الفنية»، وضرب عبدالحليم مثالا من أغنية «بتلومونى ليه؟»، قائلا: «وهو حبيبى وهو نصيبى/ وهو النور لعنيه وقلبى/ وهو شبابى وهو صحابى/ وهو قرايبى وكل حبايبى/ والناس بيلومونى وأعمل إيه يا قلبى/ عايزين يحرمونى منه ليه يا قلبى»، وعلق: «لا شك أن هذه الكلمات جميلة، ولكن جمالها لا يبرزه إلا اللحن الجيد والأداء الجيد».
سأله البندارى، عن الدور السياسى الذى يلعبه الفنان فى حياة الناس، أجاب عبدالحليم: «يشترط لنجاح الأغنية الوطنية أن تكون المشاعر موجودة فى القلوب أصلا، وعندما ترغب الجماهير فى أن تعبر عن مشاعرها وتجد أمامها الأغنية التى تتجاوب مع هذه المشاعر الهادفة، فإنها تنطلق بترديدها عن وعى وإحساس، وحدث فى دمشق أن غنينا أنا وزملائى الفنانين فى ليلة الاستفتاء على الوحدة 21 فبراير 1958 بين الإقليمين الشمالى «سوريا» والجنوبى «مصر» من التاسعة مساء إلى صباح اليوم التالى.
غنيت ليلتها أغنية الوحدة التى تقول: «غنى يا قلبى وهنى الدنيا وقول مبروك/ كبر البيت واتجمع شملك انت وأخوك»، وبعد أن انتهيت من غنائها، انطلقت الجماهير تغنى «احنا الشعب»، ووجدت نفسى أرددها معهم، كانوا أكثر من عشرة آلاف مواطن، وظللنا جميعا أنا وزملائى والجمهور نغنى حتى السابعة صباحا، كان موعد الانتخابات بعدها بساعة، لم يذهب أحد إلى بيته، كنا فى يوم عيد، ووجدنا أنفسنا نندفع مع الجماهير من المسرح إلى صناديق الانتخابات، ونحن نردد جميعا فى نفس واحد هذا الهتاف: «احنا الشعب احنا الشعب/ اخترناك من قلب الشعب/ يا فاتح باب الحرية / يا ريس يا كبير القلب».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة