كان الوقت مساء الجمعة، 2 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1970، حين هبطت الطائرة بمطار موسكو، منتظرة صعود سيدة الغناء العربى، أم كلثوم، لعودتها من «عاصمة الحزن والبكاء»، بوصف الباحث الموسيقى كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كان حزنها وبكاؤها على وفاة جمال عبدالناصر المفاجئة، يوم 28 سبتمبر 1970، أثناء وجودها فى الاتحاد السوفيتى لإحياء حفلتين فى موسكو وطشقند، وذلك ضمن برنامجها لدعم المجهود الحربى، الذى بدأته بعد نكسة 5 يونيو 1967، وأدى الحدث الجلل إلى إلغاء برنامجها وعودتها.
كان الدبلوماسى الراحل السفير وفاء حجازى وزيرا مفوضا بالسفارة المصرية بموسكو وقتئذ، وفى شهادته لى ضمن شهادات أخرى ضمها كتابى «أم كلثوم وحكام مصر» كشف أسرار هذه الساعات الحزينة، ويذكر أن أم كلثوم انصرفت إلى الفندق، بعد حفل عشاء أقامه لها، وحضره أعضاء فرقتها والإعلاميون الذين صاحبوها فى رحلتها.
يتذكر «حجازى»: «كنا فى انشراح وسعادة بوجودها، وبقينا بعد انصرافها، واستغرقتنا المناقشات، ودق جرس التليفون، فرفعت السماعة، وارتبكت، ضاع لون وجهى، هرب صوتى، ثم خرج خفيضا للموجودين، «جمال عبدالناصر مات»، انفجرنا فى بكاء هستيرى، انكفأت المذيعتان سامية صادق، وأمانى ناشد على الأرض، شعرت بألم موجع فيه لسعة نفسية لا يمكن وصفها ولم تفارقنى أبدا، كل شىء كان مقبضا على النفس والدموع قليلة عليه، كانت هناك مهمة ثقيلة وهى كيف يتم إبلاغ أم كلثوم؟».
كان الكاتب الصحفى بجريدة الجمهورية، محمد الحيوان، ضمن الوفد الإعلامى، ويذكر: «فكرنا فيمن يستطيع نقل النبأ إليها، عجز الجميع وتهربوا، لكن فى الصباح دخل المهندس محمد الدسوقى «ابن شقيقتها» عليها، كان وجهه غريبا، وقاتما، سألته: ماذا بك؟ تمسك بنفسه، وقال: بعض آلام المعدة جعلتنى أسهر الليل، ثم خرج ليكمل بكاءه، ثم دخل عليها رفعت الدسوقى «ابن شقيقتها الثانى»، قال لها: الريس مريض، وسكت، ثم أضاف: مرضه خطير، وسكت، وفى كل مرة تزيد لهفتها لمعرفة الباقى، وأخيرا قال ما يعرفه».
يؤكد وفاء حجازى: «ذهبت أم كلثوم إلى بكاء يدعو إلى البكاء، لزمت مقعدها فى الصالون الملحق بغرفتها 48 ساعة متواصلة، تتساقط دموعها تحت نظارتها السوداء، لا تأكل، ولا تقول شيئا، صامتة طول الوقت، ومحاولات الكلام معها لا تنقطع لكنها لا ترد».
فتحت السفارة المصرية أبوابها لتلقى العزاء، يتذكر «حجازى»: «ظلت حبيسة غرفتها حتى يوم الجنازة، 1 أكتوبر 1970، كنت أتردد عليها بين الحين والآخر، رأيتها نصفين، نصف مات فور تلقيه الخبر، ونصف يعيش للبكاء فقط، فى كل مرة أصعد فيها حجرتها لا يجمعنا كلام سوى: صباح الخير، السلام عليكم، لم تعط فرصة الكلام لأحد، وأظن أنه إذا لم يكن أحد منا فى هذا الوقت سيبكى فراق عبدالناصر، كان سيبكى حالها».
يكشف الدكتور مراد غالب، سفير مصر فى موسكو فى مذكراته «مع عبدالناصر والسادات»: «بكت أم كلثوم بكاء حارا، وسيطر الحزن عليها بصورة واضحة وحادة، وصلينا جميعا على روح عبدالناصر فى جامع موسكو، وصلت معنا»، يذكر «حجازى»، أن السفارة أقامت عزاء فى اليوم نفسه، وذهب لإحضارها من الفندق، يتذكر: «رأيتها تنزل بخطى متثاقلة على درجات السلم، تستند على ابن أختها محمد الدسوقى، بدت وكأن عمرا جديدا أضيف إلى عمرها، وحين شاهدت مراد غالب ألقت بوجهها على صدره باكية بحرقة، فبكى هو الآخر، قالت لى: «بقينا يتامى يا وفاء، نفسى أقرأ قرآن فى العزاء، لكن خلاص صوتى بقى مش معايا».
يذكر كريم جمال أنها فى مطار موسكو وقفت عند أسفل سلم الطائرة ترتدى السواد من قمتها إلى أسفلها، وعندما دنا منها أحد الصحفيين، الذين أصروا على معرفة حالها بعد مرور ساعات من حزنها المشهود يوم صلاة الغائب، قالت لهم وهى تبكى: «مات الرجل الذى كان للعرب بمنزلة رئيس وبطل وزعيم، وفوق كل ذلك كان والدا للجميع، يرعاهم بحنان الأب، لقد أصبحنا أيتاما من بعده».
وصلت إلى القاهرة، ووفقا للكاتب الصحفى عادل حمودة فى حلقات «الحب والحرب.. الخطابات المتبادلة بين جمال عبدالناصر وقرينته تحية كاظم»، بجريدة «البيان - الإمارات - سبتمبر ونوفمبر 2004»: «طلبت أم كلثوم نادية ابنة شقيق السيدة تحية، زوجة جمال عبدالناصر، فى التليفون، لتصحبها لتعزية تحية، فهى على حد قولها، لا تستطيع وحدها أن تحتمل مواجهتها وهى فى هذه الظروف.
يؤكد «حمودة»: «كان المشهد بين الصديقتين لا ينسى، كانت أم كلثوم تعانقها وهى تبكى جمال عبدالناصر، وكأنها تبكى فقد ابنها، بقيت تحية تزورها بانتظام، وعندما سافرت أم كلثوم للعلاج من متاعب الكلى كانت تتابعها دون توقف، وعندما دعاها الله ولبت النداء، 4 فبراير 1974، وقفت تحية تتلقى فيها العزاء دون أن تمسك دموعها، وكان أهل أم كلثوم وأقاربها يواسونها.. لقد راح الموت يأخذ منها أكثر الناس قربا لها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة