حازم حسين

الثلاثة يرقصون على إيقاعٍ واحد.. ما أراده نتنياهو وحققه بايدن وبَصَمت عليه المُمانعة

الخميس، 31 أكتوبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

خمسةُ أيَّامٍ فقط تتبقَّى على الانتخابات الأمريكية، وهى مُهلةٌ غيرُ كافيةٍ على الإطلاق لاستدراك ما ضيَّعتْه واشنطن طوالَ سنةٍ، ما يعنى أنه لا فُرصةَ لإنجاز صفقة التهدئة المأمولة فى غزَّة، مهما حَسُنت نوايا الوسطاء وتسارعت جهودُهم.. وما يُستَخْلَصُ من المشهديَّة الراهنة، أنَّ بنيامين نتنياهو أصابَ غايتَه الكاملة، إنْ كان بالحربِ الكاسحة على القطاع، أو تَوسِعَة قائمةِ أهدافِه من الضفَّة الغربية إلى لبنان، واستدعاء إيران للميدان بالأصالة، والأهمّ تطويع إدارة بايدن بدلاً من مُطاوعتها؛ حتى تمكَّن من اقتناصِ كلِّ ما أراده منها، ووظَّفها ضدَّ مُرشَّحتِها فى سباق الرئاسة كامالا هاريس. وإنْ فاز دونالد ترامب فسيكونُ لصراع الشرق الأوسط دورٌ فى الفوز، ولو مَضَتْ الأمورُ فى اتِّجاهٍ مُغاير؛ فلن تُقدِّم النائبةُ الباهتة ما يختلفُ عمَّا فعلَه رئيسُها العجوز. أمَّا محور المُمانَعة فقد أحرق أوراقَه كُلَّها، وتضرَّر فى أربعٍ على الأقل من جبهاتِه السِّتّ، ولم يعُد يتمنَّى إلَّا العودة لِمَا قبل السابع من أكتوبر 2023، ولو بشروطِ اللحظة القاسية. بمعنى أنه لم يعُد قادرًا على تحريك المُعادلات، ولا إبقائها عند توازُناتها القديمة، وما أنفقَ عليه أربعةَ عقودٍ ونهرًا من المال واللوجستيات، يتبدَّدُ الآن على مرأى عينيه كأنه لم يكُن من الأساس.

فى سياق الجَرى ناحية البيت الأبيض، بدا الرئيسُ السابق والمرشَّحُ الجمهورىُّ الحالى أكثر لياقةً من منافسته الديمقراطية؛ رغم فارق السن. تعدَّلت المراكزُ نِسبيًّا بعد انسحاب بايدن لكامالا، وأدائها المُتماسِك أمام ترامب فى مُناظرتهما الوحيدة؛ ثمَّ تحركت المُؤشِّرات من جديد لتُضَيِّقَ الفوارقَ وتُشعِلَ المُنافسة. المحكَّات الحقيقية تدور على ثلاث قضايا: الإجهاض والاقتصاد والهجرة، وبينما تتفوَّقُ سيِّدة القانون المُلوَّنة فى الأُولى، يتجاوزُها رجلُ الأعمالِ الأبيضُ فى الثانية والثالثة. ويُضافُ أنها تقتسمُ كُلفةَ السياسات الخارجية والداخلية للإدارة القائمة، فضلاً على عجزها عن الانفصال عن رئيسها، ومُحاولتها الرقص على الحبل فى المسألة الفلسطينية؛ فلا أَرْضَتْ التقدُّميِّين والشباب من حزبها، ولا كانت على قدر الآمال الصهيونية وما يُطمئن اليمينَ الإسرائيلىَّ وجماعاته الضاغطة. والحال؛ أنهما يتطابقان فى أغلب الولايات السبع المُتأرجحة، أو تُختَزَلُ الاستطلاعاتُ إلى ما دون هامش الخطأ، والمُتغيّر الأكبرُ أن يظهر الغريمُ فى مَعيّة طائفةٍ من العرب والمسلمين فى ميتشيجان، وأنْ يُعلنَ بعضُهم تأييدَه كُرهًا فيها لا محبَّة فيه، وعلى طريقة المُستجير من الرمضاء بالنار.

لا جدارةَ هُنا للحديث عن المواقف المعروفة سلفًا، ولا الشائع بشأن انحياز الجمهوريِّين لإسرائيل أكثر من الديمقراطيين، وتحديدًا دونالد ترامب بالقياس إلى أىِّ رئيسٍ سابق. فالتجربةُ العمليّة أكَّدت أنه لا فارقَ بينهما تقريبًا إلَّا فى لُغة الخطاب، ومع قَدرٍ من الميول العقائديَّة أو الرخاوة والضعف، كما فى حالة بايدن، يُمكن أن تصير الإدارةُ الديمقراطيَّة أشدَّ شراسةً من أيَّة صيغةٍ جمهوريَّة صاخبة. لقد وُظِّفَتْ الانتخاباتُ الأمريكيَّة ضد الفلسطينيين مرَّتين: عَمدًا من خلال مُراوغة حكومة الليكود وزعيمها؛ لتحصيل المكاسب من القائم وتحفيز محرِّكات بديلِه المأمول، وعشوائيًّا بأثر الخِفَّة وسُوء التقدير من جانب يحيى السنوار فى قرار الطوفان، وإغفاله الكامل لاحتمال أن تتمدَّدَ الحربُ إلى زمنِ السباق؛ فلا يعودُ بالإمكان الإفلات من قَبضة واشنطن، ولا أن يُرتَجَى منها الاضطلاعُ بأدوارٍ سياسيَّة فاعلة. والاجتزاءُ فى التخطيط تسبَّب فى ارتباك التنفيذ؛ ثمَّ فى بُؤس المواكبة الدعائية والدبلوماسية للهجمة وارتداداتها؛ فكأنَّ الغرورَ أعمى القائدَ عن رؤية الضباع وراء التلّ، وكأن صدمةَ الافتراس عطَّلته عن التدبّر فى المواجهة أو الهرب، وفجَّرت فى صدره نزيفًا عارمًا من الخطايا والانتكاسات.

لم تكُن الظروفُ مُهيَّأةً لافتتاح المُغامرة. ربما أحسَّ قطاعٌ من الفلسطينيين بأنَّ القضيَّةَ يعلوها الصدأ، وتُزاحُ من صدارة الاهتمام فى المنطقة والعالم؛ لكنها كانت جامدةً بأثر الانقسامات والنزاعات الداخلية أوّلاً، وقبل كلِّ شىء. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ إعادةَ تنشيطها كانت تتطلَّبُ ترميمَ البيت واستعادة الحالة الإجماعيَّة، قبل الذهاب إلى خصومةٍ جديدة وعارمة مع الاحتلال. أمَّا الاستعجالُ وراء «الطوفان» فقد بدا أنه ناشئٌ عن حساباتٍ «فوق فلسطينية»، لا يختلفُ النظر فيها بين أن تنبُعَ من رغبةٍ فى انتهاز فرصة التوتُّرات السياسية وفوضى الشارع العِبرىِّ، أو أنَّ الفصائل حُرِّكَتْ إليها بفاعلٍ خارجى على تقويم الشيعيَّة المُسلَّحة وأجندتها. المُهمُّ فى النهاية أنها استنفرت العدوَّ عند أعلى مستويات الغيظ والجنون، وأضافت لسرديَّتِه مزيدًا من الحجج والمُبرِّرات، بينما كان الفاصلُ مع الانتخابات الأمريكية واسعًا لدرجة أنه لا يردعُ الإدارةَ القائمة، وضَيَّقًا فى الوقت نفسِه للحدِّ الذى يمنعُها من المُفاضلة بين المواقف والخيارات، أو النظر برَويّةٍ واستقامةِ ضميرٍ فى منسوب الانحياز لإسرائيل.

يُعرَفُ عن بايدن أنه صهيونىُّ الهوى، ويُجاهرُ بهذا ولا يُقصِّر فى البرهنة عليه بكلِّ الصور العمليَّة. العلاقةُ وطيدةٌ منذ التقى جولدا مائير أوائلَ السبعينيات، وزار مصر لأجلها طمعًا فى الحصول على معلومات، أو استكشاف نوايا السادات تجاه التشابكات المُعلَّقة على حدود سيناء. وبمجرَّد وقوع الهجمة، اعتبرَ أنه واتَتْه الفُرصةُ للتعبير عن هيامه بالدولة الصهيونية، وتقديم أوراق اعتماده للولاية الجديدة، لدى دوائر اللوبى والقطاعات الواسعة من الإنجيليِّين المسيحانيين. ومنذ حضر اجتماعَ مجلس الحرب فى تل أبيب، بعد أيامٍ من طوفان السنوار، بدا كأنه سَلَّم زمامَ أمره لنتنياهو؛ رغم ما كان بينهما من تُعارُضاتٍ، ورغم تمرّده على البروتوكول المُعتاد فى استقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد بالبيت الأبيض. والأخيرُ تلقَّى الرسالةَ على معناها العميق، ولم يُفرِّط فى تفعيلها، مُفتتحًا مسارًا طويلاً من ابتزاز واشنطن، وترويضها، وإقحامها شريكًا فى أجندته الحربية المُحدَّثة، بالمُضمَر منها قبل المُعْلَن، حتى لم يعُد بإمكان الرئيس العجوز أن يُناوِرَ أو يرتدَّ على عقبيه، وصار مدفوعًا كالمُنَوَّم فى شراكةٍ حارقة.

باستثناء الهُدنة الأُولى بعد نحو ستّة أسابيع من اندلاع الحرب، لم تشتبِكْ الولاياتُ المتحدة مع العدوان على القطاع اشتباكًا مُثمرًا. اعتبرَتْ أنها فى فُسحةٍ كافية لرعاية الثأر الصهيونى، على أمل العودة قبل موعد الاستحقاق الانتخابىِّ، والعرب بطبعهم ينسون سريعًا، والمآسى تتبدَّد بمُجرَّد إغلاق دفاترها. ما كان يجهلُه الأمريكيِّون أنَّ زعيمَ الليكود لم يُخطِّط لضربةٍ سريعةٍ مهما كان حجمها؛ إنما أراد أن يُصفِّى الملفَّات العالقةَ كلَّها دفعةً واحدة، مُوقنًا أنَّ الهديّة التى جاءته من جانب غزّة قد لا تتكرَّرُ فيما تبقَّى من رحلته السياسية، فضلاً على أن التفريط فيها يُهدِّدُ إرثَه الطويل فى التصدِّى للمشروع الوطنى الفلسطينى، ويختمُ على مشواره بصورةِ الهزيمة بدلاً من تاجِ الملك اليهودىِّ. هكذا تُرجِمَ الصمتُ فى واشنطن رصاصًا فى صدور الغزِّيين، وتَمَدُّدًا إلى الضفَّة ولبنان، وتحرُّشًا بإيران فى سوريا وغيرها، وصولاً إلى قصف أصفهان خلال أبريل ردًّا على «ليلة الصواريخ والمُسيَّرات» بعد حادثة القنصلية فى دمشق. وهُنا فقط؛ استشعرَ السيّد بايدن أنَّ المسألة تمضى فى مَسارٍ خَطِر؛ فأعدَّ ورقةً للتهدئة قال إنها مُقترحٌ عِبرىٌّ بالأساس، ما يعنى أنها طالعةٌ من جَيب نتنياهو بمعرفةٍ كاملة ورضاءٍ تام؛ لكنه على ما جرت العادة وضعَ العصىَّ فى الدواليب، وفجَّر ورشةَ التفاوض بمزيدٍ من التعنُّت واختراع الشروط، وباجتياح رفح والسيطرة على الجانب الفلسطينىِّ من المعبر، وعلى شريط فيلادلفيا.

كانت مصرُ قد أنجزت ورقةً سابقة، بناء على مُخرجات جولتى باريس فى يناير وفبراير، وما تجمَّع من حصيلة اللقاءات المُتتابعة بين القاهرة والدوحة. أبدت «حماس» ليونةً بشأنها؛ فتشدَّدت حكومة الليكود، ثمَّ قرَّر «السنوار» أن يُغلِقَ الملفَّ بضربةٍ غير مفهومة على قاعدةٍ فى محيط معبر كرم أبو سالم، فتوقَّفت المُداولات وعادت الأوضاع إلى نقطة صفر، بالضبط كما حدث مع ورقة بايدن: استحسنَها نتنياهو، فرحَّبت الحركة؛ فعاد الأوَّلُ مُجدَّدًا إلى آليّة الإفساد المُعتادة. يُرسِلُ وفودَه الأمنيَّة بصلاحيَّاتٍ محدودة، ثمَّ يُهاتفهم مساءً ليُضيِّقها أو يسحبها تمامًا، وفى النهاية يضعُ الوزيرين المُتطرِّفَين بن جفير وسموتريتش فى مواجهة بقيّة الطيف السياسى، ويُوظِّف خطابهما الزاعقَ للمُناورة والإفلات من ضغوط واشنطن، وتضييع الاستحقاقات الواجبة بين مزاعم التوافق ومنطق التفاوض تحت النار. والحماسيِّون كانوا يُطيلون الجدلَ من جانبهم، على أمل أن يَخلُصوا إلى صفقةٍ مثالية، ولم يَحسَبوا أنهم يُلاقون عدوَّهم على ما يُحبّ ويرضى؛ إذ بينما تصوَّر الجميعُ أنَّ السياسىَّ الماكرَ يسعى لتحسين الشروط فحسب؛ فإنه كان يتقصَّدُ إرخاءَ حبل المعركة لآخره، وأن يُبقِى النارَ مُشتعلةً تحت عناوين مُستحيلة التحقُّق، لا لشىءٍ سوى أنه يُراهِنُ بكلِّ ما لديه على إعادة الخرائط إلى زمن النكبة الأُولى، بينما كانت غايةُ المُنَى لدى المقاومة أنْ تُعيدَها لِمَا قبل الطوفان.

الأهدافُ التى رفعَها الصهاينةُ لم تتحقَّق حتى الآن فعلاً؛ لكنهم ماضون فى العمل عليها بوحشيّةٍ لم يختلِفْ إيقاعُها عن السنةِ الماضية. يطلبون إفناءَ حماس مع الثقة فى أنها تضرَّرت حتى النخاع، ويدَّعون السعىَ لاستعادة الأسرى بينما قتلَ طيرانُهم ثلاثةَ أضعافهم على الأقلِّ فى مُستوطنات الغلاف، والغايةُ العُليا ألَّا يعودَ القطاعُ مصدرًا للخطر، بينما لا شواهدَ إطلاقًا على إمكانيّة أن يستعيدَ حياتَه الطبيعيَّة قبل عدّة عقود. أمَّا فى المقابل؛ فإنَّ الحركة افتتحَتْ مزادَ التحدّى و«عَضّ الأصابع» بطلب تبييض السجون، ومن ورائه دعايات الحرب الشاملة وصولاً إلى التحرير الكامل. واليومَ؛ تتمنّى أن يتوقّف القتال، وينسحبَ الاحتلال، وأن تتحصَّل على عشرات الأسرى مُقابل ما لديها من رهائن، ودون النظر إلى أنَّ إسرائيل اعتقلت خلال الشهور الماضية أضعاف أىِّ رقمٍ يُمكن تحريره. أى أنَّ أعلى طموحاتها تنحصر فى اللحظة السابقة على الطوفان، وتَختزلُ النصرَ فى استعادة القطاع ناقصًا 50 ألفَ قتيلٍ وعشرات آلاف المبانى، وتكتوى بمَلامَة الضحايا هُنا، والحُلفاء المُمانِعين هناك، والخذلان الذى تلقّته من رأس المحور على خلاف كلِّ الوعود والتطمينات.

حسبةُ الانتخابات الأمريكية أطلقَتْ يدَ نتنياهو فى فلسطين، وهى نفسُها التى غَلَّتها عن إيران. وعلى قدر ما بدا فى هندسةِ الردِّ الإسرائيلى الأخير على صواريخ الملالى من توافُقاتٍ مشبوهة، وإشاراتٍ لقُدرة الإدارة الديمقراطية على عَقد الصفقات، وترويض الوحشِ الصهيونىِّ؛ فإنها أكَّدت الوقائعَ السابقة عن خطأ الحسابات، وسوء التقدير فى الزمان والمكان. والأهمّ أنَّ انصياعَ تلِّ أبيب لإرادة واشنطن، لم ينشأ عن ضَعف الأُولى ولا بأس الثانية؛ إنما عن فاعليَّة الأجندة اليمينيَّة التى فَرضَها رئيسُ الحكومة على الأصدقاء قبل الأعداء، وفِكرتُها أنْ يُفجِّر الجبهات ويُشرِفَ على تفاعُلاتها، فى انتظار الورقة الحاسمة بعد الانتخابات الرئاسيَّة، بعدما يُقدِّمُ نفسَه نَبيًّا توراتيًّا فى حرب الوجود، ونائبًا مُخلصًا عن الغرب فى معاركه الحضاريَّة. وستكونُ البيئةُ الشيعيَّةُ مُهَلهَلةً لدرجة الإجهاز عليها إنْ حضرَ ترامب، أو استنفارِها لإشعال المُواجهة بالطريقة التى تُناسِبُ الليبراليين. والذاكرةُ السياسية لا تخلو من أثر الأظافر الزرقاء؛ إذ انتظر فرانكلين روزفلت حادثةً مثل بيرل هاربر ليشتبِكَ مع اليابان فى الحرب العالمية الثانية، ثمَّ حَسمَها خَلَفُه هارى ترومان بالقُنبلة الذرية، وهو ما يفوقُ أعلى مستويات الخشونة الجمهورية الحمراء فى كلِّ أزمنة التوحُّش الأمريكى.

والقَصدُ أنَّ نتنياهو أرادَ تقطيعَ الوقت منذ البداية، وما فعل بايدن شيئًا إلَّا مُجاراته فى تلك الإرادة. وعندما يُقدِّمُ اليومَ مُبادرةً جديدةً للهُدنة فى غزَّة، بعد ساعاتٍ من إعلان الرئيس السيسى عن مُبادرةٍ مصرية؛ فإنَّ مُراد الإدارة ليس تنشيطَ التفاوض ولا إنجازَ الصفقة الضائعة؛ بقدر ما يلعبُ دورًا فى تعكير المياه وتمرير الليالى الباقية قبل الانتخابات. لقد قالت كامالا هاريس إنَّ إيران أخطرُ الأعداء حاليًا؛ لكنَّ رئيسَها وداعمَها العجوز لعب دورًا فى احتواء الموقف المُتصاعد بين طهران وتل أبيب، لا مَحبَّةً فى عِمامة خامنئى ولا كراهيَّةً لقلنسوة بنيامين؛ بل لرغبته فى عُبور الاستحقاق دون مُؤثِّراتٍ تضغط على فُرَص الحزب فى السباق، أو تُعَزِّز مركزَ غريمه الجمهورىِّ المُتمدِّد أصلاً دون مُعاونةٍ إو مفاجآتٍ أكتوبريّة صادمة.. وإذا كانت ورقتُه السابقةُ قد اقترحَتْ ثلاثَ مراحل مُدّة كلٍّ منها ستَّة أسابيع، فإنَّ السياقَ الراهنَ يتجاوزُ كلَّ الرُّؤى المُتفائلة، بشأن تحجيم الميدان، وخفض حرارته لآجالٍ أطول من موعد التنصيب على عتبة البيت الأبيض. والنزولُ فى النسخة الجديدة إلى أربعة أسابيع وثمانى رهائن، لا يُحقِّق هدفَ التهدئة الدائمة ولا الاستكشاف المحسوب، وسيرفضُه الجانبان لأنه أطولُ مِمَّا يُريده نتنياهو وأقصر مِمَّا ترتضيه حماس، وعلى الأرجح أنه لا غايةَ منه سوى غَسل يديه من المشهد الذى تسبَّب فى إرباكه، ليبدو كأنه يُسلِّم المنطقةَ للرئيس الجديد باردةً نِسبيًّا؛ على أن تنفجرَ مُجدَّدًا بين يديه، وقبل أن يتولَّى السُّلطةَ فِعليًّا.

وجاهةُ المُبادرة المصرية أنها تنسجمُ مع رُوزنامة الانتخابات، إذ تنصُّ على تهدئةٍ ليومين بأربع رهائن، ثمَّ عشرة أيَّامٍ للتفاوض على المراحل التالية. وهو ما يسمحُ باستكشاف هُويّة الإدارة الأمريكيَّة الجديدة، وإنهاء آثار بايدن فى الملفِّ سريعًا، والاستفادة من زخم الفائز على وجه الاستعجال، بما يُواكِبُ المُداولات التى يُنتظَرُ منها الوصول إلى تَصوُّرٍ ناضجٍ عن اليوم التالى. وحال صعود كامالا فإنها ستكون قادرةً على إنتاج مُواءمةٍ أكثر فاعليّة من سَلَفِها، أمَّا ترامب فبإمكانه تثميرُ حالة الرَّدع المعنوىِّ الكامنةِ فى شخصِه تجاه إيران، بما يُحيِّد أثرَ الشيعيَّة المُسلَّحة وتسلُّطَها على ما تبقَّى من حماس، ويدفعُ الحركةَ باتجاه التوافُق على ترتيباتٍ تتَّصلُ بالبيئة الفلسطينيَّة حصرًا، دون حساباتِ المحاور والأحلاف، ولا اعتبارات ما فقدته طهران فى لبنان وسوريا، وتُريد استعادته على أطلال غزّة.

الهُدنة اليومَ أبعدُ من أىِّ وقتٍ مضى؛ إذ المكاسبُ التكتيكيّةُ تُحفِّز نتنياهو على المزيد، والأضرارُ الاستراتيجيَّةُ تزيدُ التشدُّدَ لدى الحماسيِّين؛ حتى لا يخسروا كلَّ شىءٍ. وشرطُ التهدئة أن تتَّضح ملامحُ البيت الفلسطينىِّ أوّلاً، بمعنى اتِّفاقِ الفصائل على طبيعة المشهد قبل أن يُفاوِضوا العدوَّ فيه. أمَّا بالمنطق؛ فإنَّ الإدارةَ الأمريكية التى عجزت عن تغيير المسار طوالَ سنةٍ، لن يكون فى مَقدورها إتيان المُعجزة خلال بضعة أيَّام. سيرفضُ الائتلافُ الحاكمُ فى تلِّ أبيب أيّة مُقاربة تُعطِّله عن تأطير مستقبل حزب الله، بالنار أو بالسياسة، ومعلومٌ أنَّ جبهة لبنان مُعلَّقةٌ على النزاع الأساسى فى غزّة، ولو تيسَّر إنزالُه عن الشجرة فى القطاع؛ فإنَّ ورثةَ السنوار أضعفُ من الارتداد عن مساره، أو تقديم ما يُشْتَمُّ منه التنازّلُ والتفريط؛ ناهيك عن ألَّا يكون على هوى قيادة المُمانَعة ووِفْقَ ساعة يَدِها.

والخُلاصةُ؛ أنه لا صفقةَ فى المدى القريب، بل ربما تمتدُّ سجَّادةُ الضباب إلى الرُّبع الأوَّل من العام المُقبل، باكتمال التنصيب ثم استواء الرئيس الأمريكىِّ الجديد على العرش وإلمامه بالملفّات. تقولُ طهران إنها ستردُّ على ردِّ إسرائيل، وتُهدِّدُ الأخيرةُ بجولةٍ استباقيَّةٍ ثانية، وبالتصعيد إزاء أيّة رُدودٍ إيرانية مُقبِلة، وكلاهما يمدُّ حبالَ الذراع، ويستمرئ لُعبةَ العَضِّ فى انتظار أن يصرخ الآخرُ؛ بينما يعضّان معًا على أصابع الفلسطينيين واللبنانيين، والصرخات كلُّها بالعربية لا بالعِبريَّة أو الفارسية. لقد تواطأت الأُصوليَّتان الشيعيَّة والتوراتية على المنطقة فى واحدةٍ من أسوأ مراحلها، وثالثهما «الشيطان الأكبر» بتوصيف الجمهورية الإسلامية؛ ورخاوة «الإرث الأوبامىِّ» كما تراه دولة الاستيطان الإلغائى. وإذا كانت النتائج أصدقَ فى التدليل من المُقدِّمات؛ فقد لعب الثلاثة فى فريقٍ واحد، ولا معنى لأىِّ حديث عن العداوة والشِّقاق واختلاف المسالك والغايات؛ طالما أنهم يرقصون معًا اليومَ على إيقاعٍ واحدٍ، ويتشاركون فى تكديس الركام والأشلاء فوق خرائط الآخرين.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة