القِمَمُ قِيَمٌ فى ذاتِها؛ إذ اللقاءُ والحوار مِمَّا يدلُّ على الحياة ويُبشِّرُ بالأمل. ولا شَكَّ فى أنَّ لقاءَ القادة ومُمثِّلى سبعٍ وخمسين دولةً فى الرياض، للمرَّة الثانية خلال سنةٍ واحدة، يُفهَمُ على معنى الجدّية، والرغبة فى شَحذ الأدوات، والمُداومة على طَرق الأبواب بما لا يُسَلِّمُ بالجُمود واليأس. وأوَّلُ الوصول، أنْ تطبعَ خطوةً واحدة على الطريق الصحيح.
القِمَّةُ العربيَّة الإسلامية ليست تكرارًا للمواقف فى سياقٍ مُتجَمِّد؛ بقدرِ ما تستجيبُ للحوادث المُحيطة مع تصاعُد نُذُر الخطر، وملامح التأسيس لإدارةٍ أمريكية جديدة، تصحُّ معها كلُّ الاحتمالات، ويتوجَّبُ الاقترابُ منها واختبارُها جميعًا. والحال؛ أنها مساحةٌ ذهبيّة ما استُثمِرَت على الوجه الأمثل حتى الآن، وهامشٌ للتداوى ذاتيًّا، قبل التعويل على الطِبِّ البعيد ووَصفات العطَّارين.
وإذا كان واجبًا ومطلوبًا العمل على بناء موقفٍ تضامنىٍّ إزاءَ الانفلات الإسرائيلىِّ، وما وقع من مساسٍ مُباشرٍ بالحقوق غير القابلة للتصرُّف فى فلسطين ولبنان، كما بسلامةِ البيئة الإقليمية ومصالح مراكزها الكُبرى؛ فإنَّ الاشتغال على ترميم البيت من الداخل، وتذويب الاختلافات وتفاوت الرُّؤى بين الأطراف الفاعلة فى المُنظَّمَتين، ربما يحجزُ مقعدًا فى صدارة الأولويَّات، بما لا يقلُّ عن إسكات البنادق واستنقاذ الضحايا.
وليس القصدُ أنَّ الدفاعَ عن الأُصول الاستراتيجيَّة للمنطقة يتقدَّم على أرواح ناسها؛ إنما أنهما مُرتبطان معًا على الرغم من كلِّ الدعايات، ومُحاولات التفرقة والتقسيم، وفصل السياسىِّ عن الإنسانىِّ، والبَيْنِىِّ عن الخارجى. وقد بات من قَبيل الإنكار واستمراء الخطايا، أن تُجَزَّأ الكُلِّيّات وتُدرَسَ الأحوالُ بمَعزلٍ عن بعضها، أو أنْ يَتوهَّم فريقٌ من العابثين بالخرائط إمكانيةَ إطفاء النار بالنار.
وبينما يعرفُ القادةُ المُجتمعون أنهم يُسجِّلون موقفًا، بأكثر مِمَّا يُحتَمَلُ أن تُنتِجَ القمّةُ أثرًا ماديًّا واضحًا؛ فإنَّ ما يتعذّر عليهم مع الآخر، يُفترَضُ أنْ يتيسَّر مع الذات. والمعنى؛ أنهم يَتَقَصَّدون من حالة الإيحاء بالإجماع، أنْ يُقدِّموا سرديَّةً بديلةً لخيارات الاحتلال الصِّفريّة، وأن يستميلوا العواصمَ المُتسلِّطَة على النظام الدولى، أو واشنطن على وجه التحديد، بينما تتعثَّرُ التجربة فى تناقُضاتِها الداخلية، وتبدو عاجزةً عن التوصُّل إلى تفاهُماتٍ مُثمِرَة فيما بين الأعضاء.
والحال؛ أنَّ «درءَ المَفْسَدة مُقَدَّمٌ على جَلْب المنفعة» على ما يقول الفقهاء، وإذا كان إسنادُ الغزِّيين واللبنانيين يتطلَّبُ ضَغطًا عظيمًا، والضغط لن يَتولَّد إلَّا من قناة الوِفاق، فالأَوْلَى بالمنطقِ أن تُدارَ الورشةُ العربية الإسلامية بما يُحقِّقُ التلاقى أوَّلاً، ويُبدِّدُ التعارُض الذى يتسبَّبُ لاحقًا فى تبديد الجهود، وإرباك الساعين إلى ضَبط الأجندة على الوجه الأمثل: فى نضالات الدبلوماسيَّة أو السلاح.
القَولُ السائدُ أنَّ إسرائيل تعتدى دَومًا خارج الأسباب والمُبرِّرات، وهو حَقٌّ لا مِرَاء فيه؛ لكنَّ السوابقَ فى أغلبِها لا تخلو من توظيفٍ لِلُعبة الذرائع. هكذا تعلَّلت قبل حرب يونيو 1967 بإجلاء القوَّات الدولية وإغلاق مضيق تيران، كما علَّقت غزوَها للبنان على النشاط المُسلَّح لحركة فتح. تهرَّبت من أوسلو بتصعيد اليمين على جُثَّة رابين، ومن مُبادرة السلام العربية بالعمليَّات الفدائيَّة فى الداخل. واستثمرت فى «حماس» لإضعاف مُنظَّمة التحرير، وبرَّرت تسلُّطَها على رام الله وانصرافَها عن التفاوض بضَعف السُّلطة الوطنية.
وبالدرجةِ نفسِها؛ اتَّخَذَ نتنياهو من «طوفان السنوار» ذريعةً للتنكيل بغزّة، ومن حرب «الإسناد والمُشاغَلة» مدخلاً إلى اختصام حزب الله على التراب اللبنانى، واستفزَّ الشيعيَّة المُسلَّحة بقَتل رجالها فى الخارج وضيوفِها فى الداخل، ثمَّ استمدّ من ألعابها النارية فى أبريل وأكتوبر حافزًا لتوسعة المُواجهة، واستدعاء إيران إلى الميدان بالأصالة؛ انتظارًا لأن يُلاقيه ترامب على ساعة الصفر.
ما نزلَ على القطاع كان يُمكِنُ أن يحدُثَ من دون الطوفان؛ إنما لم يكُن ليَصحبَه غطاءٌ دولىٌّ كثيفٌ فى أسابيعه الأُولى على الأقلِّ، ولم تكُن ماكيناتُ السياسة لتتعطَّل على طريق البحث عن هُدنةٍ أو تسوية، أو فيما يخصُّ الإدانةَ الدولية بما لا يَقبلُ الجَدَلَ والاعتراضات. وسواء خُطِّط للمسألةِ أو جاءت عفوًا؛ فإنَّ الهجمةَ الحماسيَّة كانت تصويبًا على النَّفْسِ أوَّلاً، ثمَّ على الحاضنة العربية اللصيقة من دول الاعتدال، ولا معنى للتَلَطّى وراء قِيَميّة النضال وشرف المقاومة، بعدما تكشَّفت الوقائع وانجَلَتْ جَردةُ الحساب.
وتأسيسًا على واقع الحال؛ فإنَّ الإدارةَ بالطريقة نفسِها تُعبِّرُ عن نزعةٍ انتحارية، أو عن فقدانٍ للوعى والاتزان، كما أنَّ الحديث عن النصر تحت سقف النكبة الكاملة؛ إنما يُجسِّدُ هُروبًا إلى الوَهْم، أو يفضحُ رغبةً كاملةً فى التضليل، وكلاهما يُحقِّق غايةَ الاستثمار فى المأساة. وإذا كانت فائدةُ فصائل المُمانَعة أو رأسِ محورِها مَحلَّ شَكٍّ؛ فالمؤكَّد أنَّ الصهيونيّةَ القوميَّةَ التوراتيَّة تربَّحت من المُقامَرة.
كانت السماء بين الرياض وطهران مُلبَّدة بالغيوم. والحكايةُ أنَّ فوضى الربيع العربىِّ أهاجَتْ التناقُضات الكامنة فى البيئة اليَمنيَّة؛ فاستثمرَها الهاجعُ والناجع. حاولَ الإخوانُ بدَعمِهم الغربىِّ المُعتاد، وتفوَّقَ عليهم الحُوثيِّون بمُظاهرةٍ مُباشرة من الجمهورية الإسلامية، ما تطوَّرَ مع الوقت إلى انقلابٍ دَامٍ، وتهديدٍ مُوجَّه لأمن المملكة.
والمهمُّ بعد سنوات المُناكفة التى يطولُ فيها الكلام؛ أنَّ البَلَدَين جَلَسَا لطاولةِ الحوار، وأبرما اتِّفاقًا فى ربيع العام الماضى، قاد إلى تبريد الأجواء، واستعادة العلاقات الدبلوماسيَّة، وإبقاء التوازُنات عند حدودٍ مقبولة؛ لكن المُفارقة أنهما وقَّعا تحت مَظلَّة صِينيَّة، وليس فى الفضاء الإقليمى المُشتَرَك والمُتقاطِع بينهما، ولا فى إطار مُنظّمة التعاون الإسلامى التى يتشاركان عضويَّتها.
وحالُ الجامعة العربية لا يختلفُ كثيرًا؛ إذ الشِّقاقُ والتنازُع أكثرُ ما يحضرُ فى مُدوَّنتها التاريخية، حتى قِيْل للتندُّر إنَّ «العرب اتَّفقوا على ألَّا يتَّفقوا». وإذا كانت الصراعاتُ مكتومةً فى الراهن، وصارت أبعد من اتِّخاذ صورٍ خَشِنَةٍ كما كان فى حرب الخليج؛ فإنَّ الوِفاقَ ما يزالُ غائبًا، والأولويَّات مُفترِقَةً ومُتباعِدَة، وبعضَ الدُّوَل لديها نوازعُ تتصادَمُ مع غيرها، والبعضَ تُحرِّكها رياحُ الخارج وحساباته: الإملائيَّة أو النَّفْعِية.
وليس أدَلَّ على ذلك من خُلوِّ المقعد السورىِّ اثنتى عشرةَ سنةً؛ لا لشىءٍ إلَّا أنَّ الولايات المُتَّحدة أرادت أن تعزلها سياسيًّا، مثلما عزلَتْ العراق سابقًا بالحديد والنار بعد إطاحة صدَّام. وحتى العودة الأخيرة لم تكن بعيدةً عن أهداف واشنطن، ومُقارباتها المُحَدَّثة لقضايا المنطقة.
ورغم ما تَقَدَّم؛ فالإشارةُ أنَّ الاتِّفاقَ السعودىَّ الإيرانىَّ كان مُمكِنًا منذ البداية، وكذلك عودة سوريا للجامعة، وترميم علاقات تركيا مع المنطقة العربية. كلها لم تكُن مُستحيلاتٍ، وقد جرى بعضها داخل المرافق الإقليمية، أو بوساطةٍ دوليَّة وعلى المستوى الثنائىِّ. أىْ أنَّ البحث فى المسائل العالقة أمرٌ فى المُتناوَل دائمًا؛ إنما العَقَبةُ فى انسداد القنوات أو قُصور المُؤسَّسات الجامعة.
وما فاتَ سَوْقُه؛ يتطلَّبُ الاجتهادَ لتلافى مُعوِّقات الاتصال والعمل الخلَّاق، والخروج من حال التنازُع بكلِّ ما تُلقِيه من أعباء على الجميع، وما تخصمُه من قُدراتِهم الكاملة، إلى سياقٍ من الحُوار ولو ابْتُدِئ جَدَلاً، والتنسيق ولو اتَّخذ فى أوَّلِه صورةً أقرب لصراع الإرادات؛ لأنَّ الانطلاقَ من أرضيَّةٍ واحدة أهمُّ ما تحتاجُه الدائرتان العربية والإسلامية لحَجز مَوقعٍ بين الفاعلين، وأبرز ما يُقَوِّى المُقاربات الناشئة عنهما فى الحرب والسِّلم، ويُوفِّر لها قدرةَ الإقناع، وتثبيت الداعمين واجتذاب المُحايِدين، ووَضع العَدوِّ أمام الاستحقاقات الواجبة.
مفهومٌ طبعًا أنَّ مُداواة الجروح مُقَدَّمةٌ على بناء العضلات وتَقويتها. وفى مناخ المِحنة لا شىءَ يَتَقدَّم على البحث فى مُعاناة الغزِّيين واللبنانيين، ومحاولة ترويض الجنون الإسرائيلى من بوَّابة الراعى الأمريكى؛ لكنَّ الجِسمَ السقيمَ أقربُ للوَهَن من العافية. والقِمَّةُ فى مِيقاتِها تُراهِنُ على طقوس الإحلال والتبديل فى البيت الأبيض، وتُوجِّه الرسائل للإدارتين، الراحلة والمُقبلة، وهى خطوةٌ ضمنَ مسارٍ طويل من بناء المواقف وتكثيف الضغوط، والعمل على توسعة الجبهة المُضادَّة للحرب.
ومع سُموِّ الغاية وعُلوِّ ترتيبها؛ فإنَّ المجالَ يحتملُ الحديث عن إصلاح آليَّة العمل المُشترك، وضَبط المواثيق والصلاحيات، وإكساب المُنظَّمَتَيْن فاعليَّةً أكبر مِمَّا يتوافر لهما حاليًا، بحيث لا تكونُ مُلتقياتهما مُجرَّدَ غلافٍ شَكلانىٍّ يجمعُ المُتَّفِقين فى الخصائص، بدلاً من أن يكونَ منصَّة للتوفيق والمُضاعَفة، بمعنى تفعيل قُواهم الفردانيَّة على نحوٍ جماعىٍّ مُفيدٍ للغايات المُشتركة، ولكلِّ عُضوٍ فى نطاقِه الحيوىِّ المُباشر.
الأزمةُ وإنْ كانت تعودُ فى أصلِها للاحتلال؛ فإنَّ جانبًا منها يتعلَّقُ على عاتقِ السرديَّات المُضَلِّلة، والتوظيف الانحرافىِّ للمَظلَمَة. الأوضاع فى فلسطين كانت سيِّئةً دائمًا؛ لكنها صارتْ أسوأ مع الانقسام الوطنىِّ. ولبنان لم يكُن يومًا جنَّةً لا تشوبُها شائبة؛ إنما لم يصِلْ إلى حَدِّ الجحيم الذى يقفُ عليه اليوم، حتى عندما كان مُحتَلاًّ والصهاينةُ على أطراف عاصمته، ظلَّ قادرًا على الحياة وصناعة الأمل.
إسرائيلُ فكرةٌ عدوانيَّة فى جَوهرِها، وأثمنُ أسلحتها شَقُّ الصفوف وإشاعةُ الانقسامات. وإذا كان التَشبُّث بالأرض والحياة أنجعَ ما يُمكِنُ التصدِّى به لأجندتها الإلغائيَّة؛ فإنَّ أعمقَ صُوَر المُقاومة أنْ تتجمَّع الأجزاء، لا أن تتفصَّد الخرائطُ دمًا وعَرَقًا ويتناثر البدنُ الواحدُ عمائمَ وأشلاء. وبهذا المنطق؛ يُلامُ القاتلُ فى جريمته المفتوحة، ولم تَكُن مُفاجئةً على أيَّة حال، وما من شَىءٍ يتكرَّرُ أكثر منها فى صحائفنا القديمة والجديدة، بينما اللومُ الطازج والأشدُّ إثارةً للأسى، ما يقعُ من حَرْفٍ للبوصلة لأغراض الاستتباع والتنفيع، وأنْ تُوظَّفَ القضايا العادلةُ لخدمة نوايا دَنيّة. وتزدادُ القتامةُ إذ نَصِلُ لمِثلِ ما وصلناه؛ بمعنى ألَّا تتوقَّفَ المَقتَلَةُ، ولا يستفيد التاجر.
ستتباطأ الحربُ بحُكمِ الضرورة ومَنطق الأُمور، وقد يُسرِّعُ انتخابُ «ترامب» من فُرَص التهدئة؛ على خلاف ما يشيعُ بين الناس. لكنَّ الاستدامةَ مَرهونةٌ بالاستفاقة؛ أىْ بأنْ يُعادَ بناءُ المجال العام لبيئاتِ النزاع بصورةٍ وِفاقيَّة جامعةٍ، لا تستثنى طَرفًا، ولا تضعُ فصيلاً فوقَ آخر. وسابقُ الخِبرة يقطعُ بأنَّ الهُدَنَ كثيرًا ما كانت مُجرَّدَ فواصل بين المعارك، وغالبًا ما تعودُ على صورةٍ أشرس وأكثر دَمَويّة، بينما يتعذَّرُ دومًا صَرف ضَريبتِها الثقيلة لحساب القضية، أو تثميرها فى نطاق السياسة والمسار التراكُمى للنضال.
يبدأ الإنقاذُ الحقيقىُّ من ترميم البيت الفلسطينى، على ما تعملُ القاهرة بجهدٍ دؤوبٍ منذ عقدين تقريبًا، وحقَّقت تقدمها الأبرز قبل أسبوعين، بالاتفاق على تدشين لجنةٍ للإسناد المُجتمعى بالتوافق بين فتح وحماس، لتتولَّى إدارةَ القطاع بهيئةٍ فنيّة غير مُلوَّنة حزبيًّا، على أن يتبعَها نظرٌ فى ترتيبات البيئة السياسيَّة وإعادة تخليق السُّلطة تحت عباءة مُنظَّمة التحرير ووفق أجندتها. والحال؛ أنَّ لبنان أحوجُ ما يكون لمُعادلةٍ شبيهة، وبينما يتسلَّطُ الحزب على الدولة وطوائفها؛ فالقرارُ ليس فى حوزته ولو ادَّعى العكس، ومثلما يُراهَنُ فى التفاوض مع إسرائيل على واشنطن، فربما يمرُّ الوصول إلى بيروت من جِهة طهران.
باختصارٍ؛ لنا مَظلَمةٌ ثابتة تجاه الصهيونية، حاضرًا وماضيًا، والغرض ألَّا نقفَ فى المُستقبل على طَلَلٍ آخر، ولا أنْ نظلَّ فى متاهةِ تكرار الخطايا وانتظار العطايا، بينما لا تُفضِى المُقدِّماتُ المُتطابقة إلَّا للنتائج السابقة. وقَطعًا ليس من مهامّ القمَّة العربية الإسلامية غير العادية أن تُدينَ أعضاءها، ولا أنْ تُسجِّل الأهدافَ فى مرماها؛ لكنَّ واجبَها الذى لا يقبلُ النقاش أنْ تعمل لتُرميم الشقوق وسَدِّ الثغرات، وألَّا تتركَ الملعبَ مفتوحًا والمرمى من غير حِراسة. بينما المنطقُ أنَّ كلَّ ما يقبلُ الحلِّ داخليًّا؛ يتعيَّنُ ألَّا يُنظَرَ إليه على ميقاتِ الخارج، ولا أنْ ننتظرَ تسوية نزاعاتنا البينيَّة وفقَ حسابات الأعداء.
إيرانُ مُمثّلةٌ فى القمَّة، ولو بدرجةٍ أدنى من النسخة السابقة بحضور رئيسها الراحل إبراهيم رئيسى. ولبنانُ الرسمىُّ حاضرٌ أيضًا، وفلسطين وسوريا والعراق واليمن. إسرائيلُ غائبةٌ وستظلُّ عن أيّة فعاليَّة إقليمية جامعة؛ وعليه لا مجالَ للمُزايدة على القول بوُجوبيَّة النظر فى الإِحَن والمواجع البينيَّة، ونكأ الجروح تمهيدًا لتطهيرها والتشافى منها. وعلى قَدر الإقرار بأهميَّة كلِّ ما تبنَّاه البيان الختامىُّ؛ فالخَشيَة أنه لن يكونَ ذا قيمة حقيقيَّة فاعلة، طالما لم تُوضَع المآخذُ على الطاولة، ويُلزَمْ كلُّ طَرَفٍ طائرَه فى عُنقه.
يُقرُّ الجميع بأنَّ لدى الدولة العِبريّة مُخطَّطًا عدائيًّا للإقليم بكامله؛ ثمَّ لا يأخذون الأُمورَ بحَقِّها، ولا يعملون بمُقتضى الواجبات الضرورية لإفساد الخطَّة أو اجتناب تأثيراتها. البدايةُ فى تخليص فلسطين من التلوين الطائفى، ومن لعبة المحاور والتحالُفات، وإعادة تقديمها على حقيقتها؛ كقضيَّةٍ إنسانيَّةٍ تقعُ فى نطاق القانون والأخلاق، لا فى الدين أو العِرق، وأن يتمثَّل أبناؤها جميعًا فى أجندةٍ جامعة، ومن غير ولاءاتٍ مُضادة أو انتماءاتٍ فوق وطنية.
يُقتَحَمُ لبنانُ من جنوبه، ويتداولُ الناس فى شؤونه، وما من رئيسٍ ليجلسَ على الطاولة أو يتفاوضَ باسمه. والواجبُ على وجهِ السُّرعة أن تُستعَاد ميثاقيَّةُ العَيش المُشترك، وأن يتخلَّص البلدُ العائش على توازُناتٍ شديدة الدقّة والحساسية، من ميراث الانكشاف على الخارج؛ أكان بالوصاية السورية سابقًا أم الإيرانيّة حاليًا، وأن ينهى مسارًا صاخبًا من تذخير الطائفية، وتحويلها سلاحًا فى مواجهة فكرة الدولة. ولا سبيلَ لهذا إلَّا باعتراف الحزب بالخطأ، واعتذاره عنه، وقَطع الوشائج مع الشيعية المُسلَّحة فى ظلالِها الصَّفَويّة، وإعادة تركيز منظومة الحُكم تحت سقف الدستور والقانون، ودون توظيفٍ انتحالىٍّ مُحرَّف لفائض القوّة فى مواجهة الفُرقاء والمنافسين.
لنكُن واضحين. القضيةُ قديمةٌ؛ لكنَّ الجولةَ الراهنةَ بين أُصوليَّتَين لا تتخفّيان، ولا يمنعُهما مانعٌ من الرقص على الخرائط حتى آخر جثّة فلسطينيَّة أو لبنانية. ومن واجب الجامعة العربية أنْ تُحصِّن فلسطين وتستعيد لبنان، ومن مهام المُنظَّمة الإسلامية أن تفُضَّ الاشتباك بين أعضائها، وتُعيد ترسيم العلاقة والتوازُنات.
المنطقةُ مذبوحةٌ من الوريد للوريد؛ ولا معنى للاختصام فيها أو عليها؛ طالما أنها فى حال هشاشةٍ واستضعاف. كما لا يُفهَم عقلاً كيف لِمَن أربكَ دُولاً كانت مُستقرّة، أو عمَّقَ من عدم استقرارها، الزَّعْم بأنه فى سبيله لاستعادة دولة ضائعة ولم تُولَد من الأساس.
جيِّدٌ للغاية أن يُشدِّدَ البيانُ الختامىُّ على الثوابت، وقد يكون مطلوبًا أنْ تتواصل فعاليات لجنة المُتابعة المُنبثقة عن النسخة الماضية، بجانب جهود الرصد والتوثيق للانتهاكات الإسرائيلية. القمَّةُ جَردُ حسابٍ عمَّا كان طوال سنة، واستثمارٌ لجهود مصر وشُركائها فى الوساطة والإغاثة وصدِّ رياح التهجير والتصفية، كما تُزَخِّمُ الحالةَ الدوليَّة التى تتحرَّكُ إيجابيًّا، ويزدادُ فيها المنخرطون ضمن تحالُف حلّ الدولتين. إنما إلى ذلك؛ يتعيَّنُ التَقَدُّم خطوةً للأمام، وبمعانٍ هجوميَّة لا دفاعية؛ كأن تُختَصَمَ إسرائيلُ فى كيانها القانونىِّ رأسًا، وتُطرَحَ مسألةُ تجميد عضويَّتها الأُمَميَّة، أو سحب الاعتراف بها، انطلاقًا من أنَّ قرارَ التقسيم الذى أنشأها ينصُّ على إنشاء فلسطين؛ فكأنهما توأمٌ سيامىٌّ يتَّصلُ بقاءُ أحدِهما بحياة الآخر.
لن يُحسَمَ النزاعُ مع الصهيونية اليومَ، ولا غدًا، وربما يستهلكُ من المستقبل عقودًا لا تقلُّ عَمَّا استهلَكَه فى الماضى؛ لكنْ ما يقبلُ الحسمَ السريعَ أن يُعادَ ترتيبُ المنطقة، وتصفية نزاعاتها العالقة، وأن يتبادلَ أطرافُها الاحترامَ ومُراعاة مصالح بعضهم؛ تعزيزًا للقُدرة الإجمالية ومَنعًا لإهدار الطاقة والتصويب على الذات. القمَّةُ رسالةٌ فى وَقتِها؛ لكنَّها يجبُ أن تكون مَدخلاً لإعادة هيكلة العمل الإقليمىِّ والإسلامىِّ، والفصل بين المُتصارعين داخله، ورَدع الأصدقاء عن مُمارسات الأعداء؛ أمَّا دعمُ المُقاومة فإنه مَيسورٌ دائمًا، وإذا كانت النوايا خالصةً فيه فليس شرطًا أن يكون بالاستتباع والتوظيف. يُمكن أنْ نُوجَّه مئات الرسائل للقريب والبعيد من العالم؛ لكنْ لا نفعَ فيها جميعًا ما لم نتحدث لُغةً واحدة، ونردُّ الظالم من بيننا عن مَظالمه، ونُحرِّر قضايانا من الأثقال التى تدَّعى مُؤازرتها؛ بينما تُقيِّد السيقان وتُعَثِّرُ الخُطَى.