حضر شاب إسرائيلى ومعه صاحبه للقاء الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ المصرى، بغرفته بالفندق فى باريس يوم 29 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1948، أثناء حضوره اجتماعات اللجنة التنفيذية للبرلمان الدولى، حسبما يذكر فى الجزء الثالث من مذكراته «مذكرات فى السياسة المصرية»، ويكشف فيها قصة هذه الاتصالات من إسرائيل بهدف جس النبض لإقامة سلام مع مصر، وجاء ذلك بعد ما يزيد على عام على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية فى 29 نوفمبر 1947.
يكشف هيكل باشا، أن الشاب الإسرائيلى اتصل به يلح على اللقاء ومعه صاحبه، وأنه وحتى استقباله لهما لم يكن يعرف، ماذا يريدان؟ ويذكر أنه فى اليوم السابق «28 ديسمبر 1948» تلقى خبر ارتكاب جماعة الإخوان جريمة اغتيال محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الحكومة، وتوقع إلغاء المقابلة بسببها، لكن خاب توقعه واتصل به الشاب الإسرائيلى يؤكد الموعد، وأخبره استياءه لمقتل النقراشى، وأن إبراهيم باشا عبدالهادى، مكلف بتشكيل الوزارة الجديدة.
حضر الشابان وفى اللقاء سألهما «هيكل باشا» عما جد يمكن الحديث فيه، مشيرا إلى أن هناك لقاء فاشلا تم بينه وبين «إلياهو ساسون» الموظف الكبير فى «الخارجية الإسرائيلية»، فى جنيف بسويسرا فى أوائل سبتمبر 1948 وعرض فيه «ساسون» إقامة علاقات بين مصر وإسرائيل، وطلب «هيكل باشا» أن تترك إسرائيل صحراء النقب لمصر، فسخر «ساسون» قائلا: «ما حاجتكم إلى النقب ولديكم أنقاب كثيرة لم تصلحوا منها شيئا»،
يتذكر «هيكل باشا» إجابة الشابين الإسرائيليين عليه، قائلا: «عادا يخبراننى أن إسرائيل حريصة أشد الحرص على صداقة مصر، وأن مصر لا ترغب لأمر لا يفهمانه، وأن إسرائيل قدمت إلى مصر ما تعتقده الأساس الصالح لعلاقاتهما فى المستقبل»، ويؤكد، أنه علم منهما أن إسرائيل بعثت بمشروع لمعاهدة صداقة مع مصر، وأُبلغ به إبراهيم عبدالهادى باشا رئيس ديوان الملك فاروق «قبل تعيينه رئيسا للوزراء»، ولم يتلقوا منه ردا، ويضيف: «سألتهما إن كانت لديهما صورة من المشروع، فوعدا بإرسالها لى صبيح الغد، وبأن نلتقى مرة أخرى بعد يومين لأبلغهما رأيى فيه».
يصف الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «وعليكم السلام» قصة الاتصالات السرية بين إسرائيل وديوان الملك فاروق بأنها مثيرة، قائلا: «تكشف بوضوح الأسلوب الإسرائيلى فى التسلل إلى أصحاب مراكز السلطة والنفوذ فى العالم العربى، وتكشف المضمون الذى تعنيه إسرائيل من السلام مع مصر، فمبكرا حتى من قبل قيامها رسميا كدولة، كانت تختار أولئك الذين تتفاوض معهم جيدا، فى سبتمبر 1946 كان «إلياهو ساسون» يجتمع فى القاهرة بإسماعيل صدقى، رئيس وزراء مصر حينئذ للتفاوض معه بشأن الوسيلة الممكنة لتبنى المطالب الصهيونية حينئذ بتقسيم فلسطين، لم يكن اختيار الوكالة اليهودية حينئذ لإسماعيل صدقى عشوائيا، فمنذ أواخر العشرينيات «القرن العشرين» ربطته الرأسمالية اليهودية فى مصر بمصالحها هو وآخرين، وأصبح عضوا فى الشركات التى تسيطر عليها، مثل شركة «وادى كوم أمبو» و«الشركة الأنجلو بلجيكية» و«الأنجلو مصرية» و«الشركة العقارية المصرية».
يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى الجزء الأول من كتابه «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»، أنه طوال صيف 1946 أقام «إلياهو ساسون» «والد موشى ساسون الذى أصبح فيما بعد سفيرا لإسرائيل فى القاهرة»، إقامة شبه كاملة فى مصر، وتظهر تقارير القسم المخصوص «البوليس السياسى» للديوان الملكى، أنه اجتمع برئيس الوزراء المصرى «إسماعيل صدقى» وعدد من الساسة المصريين، وبينهم النقراشى باشا الذى كان رئيسا للوزراء قبل صدقى وبعده، واجتمع مع مصطفى النحاس، «زعيم المعارضة وقتئذ» واجتمع مع عدد من كبار موظفى وزارة الخارجية، ورتب «رينيه قطاوى بك» له اجتماعا فى بيته مع مثقفين وقادة الرأى العام فى مصر».
يضيف هيكل أن «ساسون» عقد أيضا ثلاثة اجتماعات أو أربعة مع حسن يوسف باشا وكيل الديوان الملكى، ونقل إليه رسائل موجهة إلى الملك فاروق من زعماء الحركة الصهيونية وبينهم «وايزمان» و«بن جوريون»، بل إن «بن جوريون» جاء بنفسه ونزل فى بنسيون صغير فى عمارة الخديوى بشارع عماد الدين، وكان هدفه أن يقدم للملك ولمن يهمه كل التأكيدات التى يريدون سماعها عن حسن نوايا الوكالة اليهودية فى فلسطين تجاه مصر وشعبها.
يرى هيكل: «كل هؤلاء الذين قابلوا «ساسون» وغيره، لم يكونوا متورطين فى شىء، ولا يمكن اتهام أحد منهم بالتعاون مع الصهيونية، ذلك أن هذه الحركة لم تكن ظاهرة بعد للوعى المصرى العام، سواء على مستوى الشعب أو على مستوى الحكومة».
فى اليوم التالى «30 ديسمبر 1948» تلقى «هيكل باشا» مشروع السلام الذى أرسلته إسرائيل إلى الملك فاروق عن طريق رئيس ديوانه، فماذا جرى؟