روايةُ إسرائيل ليست بالعبرية فقط؛ فبعض فصولها تُكتَب بلُغاتٍ أُخرى، وليس سرًّا أنها تسرَّبت إلى العربية أيضا، عبر مُتحدِّثيها الذين يستعيرون لسانَ المنطقة، وأحيانًا من خلال لجانٍ إلكترونية تستثمر فى الأزمة لأغراضٍ سياسية أو مذهبية، أو أفرادٍ تستغرقهم اللعبةُ بجهلٍ أو بمُراهقة.
وفى المسائل الوجودية لا تشفعُ النوايا الطيّبة للمُتورّطين فى سرديّة العدو؛ إذ النتيجة أنهم يخدمون دعاياته من حيث يتصوَّرون التصدِّى لها، ويُثيرون غبارًا يُتيح له أن يُفلت بجريمته، ويُعطِّل خُطَى الساعين لحصاره أو تعرية أغراضه الخفيَّة، وإن كان مفهومًا أن يتقصَّد الصهاينةُ إذكاء أجواء الفوضى واللغط، وأن يُسايرهم بعض الأُصوليّين، كما فى حالة الإخوان وميليشيات المُمانعة؛ فالغريب أن ينساق معهم تيّارٌ من القوميين أو المُتشبّثين بمفهوم الدولة الوطنية، وأن يضرّوا القضيةَ من باب اتّخاذها منصّةً للكيد والابتزاز، ولتسجيل الحضور الخفيف فى مسألةٍ ثقيلة، ولا تحتمل السطحيّة والرعونة.
ما توقَّف الفاشلون فى تل أبيب عن محاولة إلصاق خيباتهم بالآخرين. تجاوز الأمرُ نطاقَ الصراع مع المقاومة؛ ليتَّسع إلى اختصام كلِّ الأطراف تقريبًا: الأُمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، ووكالة غوث اللاجئين «أونروا»، وتبجَّح مندوبُهم فى لاهاى ضد مصر، ثم زاد وزير ماليِّتهم المُتطرّف سموتريتش فى الاتهامات. يقصفُ الاحتلالُ جانبَ فلسطين من المعبر، وينسبُ للقاهرة المسؤولية عن تسليح الفصائل، ويُزايد المُمانعون بالمساعدات التى لم يُشاركوا فيها، ويمتدحون ترسانةَ القسَّاميين مع انتقاد التحوُّط الأمنى فى سيناء. طرفٌ يسعى لتحييد المصريين طمعًا فى إنجاز خطَّة التهجير وتصفية القضية، والآخرُ يُغالى فى ابتزازهم لخدمة «وحدة الساحات» وطموحه فى إشعال المنطقة، وبينهما أغبياء أو مُغرضون فى الداخل، يتلقَّفون كلَّ الحكايات الرثَّةَ ويرقصون على إيقاعات الطرفين؛ فكأنهم يطلبون التهدئةَ بالنار والدم، ويبحثون عن حقوق الفلسطينيين بتضييع الإقليم كاملاً.
فى المناخات المُربكة والمُركَّبة، لا تصلحُ المُقارباتُ الشعبوية، ولا أن تُخضَع المسائلُ الحيوية للعاطفة ووجهات النظر، والعاقلُ مهما كان حظُّه من الوعى والخبرة السياسية، يعرفُ بالضرورة أن ساحةَ غزّة صارت ملعبًا للمُنازلات الحارقة، لا بالسلاح فقط؛ إنما بالوَصم والتشهير وآليات الدعاية والحروب النفسية، وقد تنقصُ حصَّة النار طلقةً فى بعض الأيام، ويتباطأ عدَّاد الشهداء والجرحى لسببٍ أو آخر؛ لكنَّ الأكاذيب تتَّخذ مسارًا صاعدًا لا يعرف النقصَ أو الملل، ما يعنى أنّ كلَّ رسالة هى بالضرورة أكذوبة إلى أن يثبُت العكس، وأنّ أثمن ما يُمكن تقديمه للقطاع وسُكّانه، ولعموم فلسطين، أن يتوقَّف الجائعون عن مَضغ الترّهات، وأن يُوضَع العقلُ فوق القلب أحيانًا، ويكون شعار العوام والبعيدين من مطبخ الأحداث؛ لأَنْ تفوتُنا مائةُ حقيقةٍ نافعةٌ أفضل من أن نُروِّج لتلفيقةٍ واحدة مُضرَّة.. ولو مَرَّ ذلك على سيكولوجية القطيع فى مواقع التواصل؛ فالبديهىّ ألَّا يمرّ على النُّخَب ومن يُقدّمون أنفسَهم طلائع وقادةَ رأى.
قبل عدَّة أيام أصدرت إحدى الحركات السياسية بيانًا شديد الابتذال، ما دلَّ على شىءٍ أكثر من الجهل وافتقار القراءة الحصيفة للمشهد؛ هذا لو أُحسِن الظنُّ بمن كتبوه، بينما يحتملُ بين تفسيراته أنه صادرٌ عن رغبةٍ انتهازية مُتعمَّدَة، وغايته شَقّ الصفِّ لا ترصيصه وتمتينُ دعائمه، يُشبهُ الأمرُ أن تكون فى معركةٍ لا تقبلُ القسمةَ على غير النصر، ويُمطِرك الخَصمُ بالنار والبالونات الحارقة والتعابير المُفخَّخة؛ ثمّ يخرجُ من جبهتك فريقٌ يصبُّ الزيتَ وينزعُ الفتيل، كما لو أنه يُريد الميدانَ محرقةً لا يسهل الصمودُ فيها ولا الرجوع منها.. والقابضون على جَمر القضية بصدقٍ لا يُمكن أن يُغامروا بما تبقَّى من رصيدها، ولا أن يضغطوا بخشونةٍ على المُمسكين بمفاتيحها؛ لا سيّما أنَّ كلَّ تشقُّقٍ فى ناحية البحث عن العدالة، يُقابلُه تصعيدٌ فى الضربات الظالمة، والحقيقةُ أنه لا اعتبارَ لأىِّ حديثٍ طُوباوى طالما يخصمُ من قوَّة المواجهة؛ إذ ليس شرفًا أنتُتاجر بالوقوف إلى جانب الضحية؛ بينما تطعنه بخسَّةٍ أو تقرّ بما يقولُه طاعنوه وتُعينُهم عليه.
لإسرائيل مصلحةٌ مُباشرة فى تعبئة السماء بالضباب؛ لذا ليس غريبًا أن تصطنع الأكاذيب وتستميت فى تعميمها. لكنَّ الصادمَ وغير المفهوم أن يقف خصومُها فى طابور الإدانة حِينًا، وفى طوابير الاستلاب أحيانًا. أُثِير باصطناعٍ واضحٍ أنّ بعض الغزِّيين اقتحموا معبر رفح ظهيرة الجمعة، ورغم نفى هيئة المعابر الفلسطينية للمسألة، وأنها لا تتجاوزُ احتشادًا بسيطًا تعاملت معه شُرطة القطاع، نَشَط بعضُ الطيِّبين والخُبثاء فى تسويق الحكاية، مُتجاهلين خدمتَها للرؤية الصهيونية الساعية لكَنْس السكّان من أرضهم، وقافزين على تأكيد أهل غزَّة أنهم ثابتون فى مواقعهم ولا يقبلون الرحيل. كما تلقَّف آخرون مَزاعم عن بناء مُعسكرٍ فى سيناء لاستقبال النازحين، ونَفَت الدولةُ سريعًا على لسان رئيس هيئة الاستعلامات ضياء رشوان، لكنّ الذين يعتبرون الأزمةَ فرصةً لاستهداف الإدارة المصرية، ما توقَّفوا لحظةً أمام المواقف المُعلَنة، ولا سوابق الادِّعاءات الزائفة، وتعاموا عن منطقيّة أن المُستفيد الوحيد ممَّا يُقال هو العدوُّ نفسه. كان السيسى واضحًا منذ اليوم الأول، وقال بحسمٍ إنه لا أُفق للتهجير، ولا لتصفية القضيّة دون حلٍّ عادل، وفى كلِّ الأحوال لن يكون على حساب مصر، ولُغةُ التصدِّى القاطعةُ من مُفتتَح الأزمة أصدقُ من أىِّ استقراء أو تأويل، وفيها ما يكفى لاستيضاح الثوابت النهائية؛ لو كانت النوايا خالصةً، وليس الغرض المُكايدة والتشويه، أو وضع الخصومة السياسية فوق المصالح الوطنية.
الحركةُ التى أصدرت بيانًا كيديًّا رديئًا، بدت كأنها فى خصومةٍ مع مصر أكثر من خُصومتها الاحتلال، وبينما حاولت الإيحاءَ بأنها تعمل لبناء صَفٍّ وطنى يُعزِّز موقفَ الدولة؛ كان الواضح أنها تشقُّ الصفَّ القائم، وتنزلقُ فى تناقضٍ فَجٍّ لا يستقيم مع سابق انحيازاتها، لقد دعت إلى التظاهر نصرةً لغزَّة على زعمها، ولأنها تجاهلت المسارات القانونية المُنظِّمة للحركة الاحتجاجية فى الشارع، ثم لم يظهر أىٌّ من قادتها فى الأماكن التى اعتادوها وتحدَّثوا عنها؛ ظهروا كما لو أنهم يستهدفون وَضع الشارع فى مُواجهة الأجهزة الأمنية، والمُفارقة أن التيَّار نفسه كان قد روَّج لمُقاطعة سباق الرئاسة، ولم يستجب الناس لدعواهم، وسجَّل الاستحقاق أعلى نسبة مُشاركة تاريخية، بحسب الهيئة الوطنية للانتخابات، والعبرةُ هنا أن حالةَ الإجماع يُمكنُ بناؤها بعيدًا من الوسائل الشعبوية، هذا لو كانوا معنيِّين بها أصلاً، أمَّا عوار الفكرة فأنه لا يستقيمُ فيمن سعى لإفشال مسار بناء السلطة، وهى حائطُ الصدِّ الأوَّل والأهم فى الأزمة الإقليمية الناشبة، أن يدَّعى السعىَ لتدشين جبهةٍ وطنية تُكاتفُ هذه السلطة وتسندُ قرارَها، أى أن دعوة التظاهر هنا لا تختلف عن دعوة المقاطعة سابقًا؛ وكلاهما للتفريق لا التجميع، وللمُناكفة السياسية لا للعمل الوطنى الخالص من الشبهات والأغراض غير النظيفة.
وفى البيان الساذج تفاصيلُ لا تقلُّ فداحة، كأن يدعو إلى قَطع العلاقات الدبلوماسية وإلغاء اتفاقية السلام، ويُلمِّح للتصعيد عند مستوى الاشتباك فى الحرب، ربما تبدو بعضُ الأفكار منطقيّةً فى سياقٍ ما، والفيصل أن تتوافر الإحاطةُ الكاملة بالمعلومات والكواليس، وهذا ممَّا يقعُ فى عُهدة القيادة السياسية والأجهزة الصلبة حصرًا. صحيحٌ أن الجنون الإسرائيلى يفتحُ القوس على كلِّ الاحتمالات، ومصر ترفضُ أيّة عملية مُنفلتة عند جنوب القطاع فى رفح، وقالت مصادرُ رسمية إنهم يتابعون الأوضاع عن كثبٍ وجاهزون لكلِّ الخيارات، إنما يظلُّ الفارق كبيرًا بين الاستعداد العاقل والمُغامرة الطائشة، وإن كانت المُقاربة الحالية تُدارُ من مُنطلق الوساطة؛ فهذا ممَّا لا يتناسبُ مع دعاوى القطيعة العاجلة وإحراق كلّ الأوراق دفعةً واحدة، طرفٌ وحيد يعرف متى يكون التفاوضُ مُجديًا، ومتى يتعيَّن بحثُ البدائل المُتدرِّجة من الدبلوماسية الخشنة إلى القوَّة الصريحة، والأكيدُ أنه ليس كاتبَ البيان البائس، ولا زُمرته من مُتقاعدى السياسة ومُحترفى شجارات الحوارى.
المفارقةُ أن البيان نُسِبَ للحركة بكاملها، ووُضِع على صفحتها الرسمية؛ ثمّ خرج بعضُ أعضائها مُعترضين، ووصفوه بأنه ساذجٌ ومُتجاوزٌ ويفتقدُ الدقَّة والرزانة. وإذ يشيرُ التضارب ظاهرًا إلى تصدُّعاتٍ واختلافٍ فى الرؤى، وإلى انحلالِ الأرضية الائتلافية التى أسَّس عليها التيَّارُ مُصالحتَه الأيديولوجية الهشَّة بين أخلاط اليمين واليسار؛ فإنه ضمنيًّا يكشفُ عن استلابِ الحركة لصالح فريقٍ بعينه، كما لو أن الباقين أسرى أو وقَّعوا عقودَ إذعان، وبالأقل يصبرون على الاختطاف فى المسائل الكبرى طمعًا فى عطايا التوافقات الصغرى. وما يحدثُ ليس سابقةً أولى؛ فقد انحازت الحركةُ سابقًا لأحد شباب الناصريين عندما قدَّم نفسه لسباق الرئاسة، وضغطَ آباؤه الروحيّون لتمرير ترشُّحه رغم اعتراض كثيرين، وقفزًا على شُبهات اتّصاله بالإخوان ولقاء بعض وكلائهم فى عاصمتين عربيتين، وعندما أخفق فى عبور العتبة الانتخابية ضغطوا لاستخلاص قرارٍ بالمُقاطعة، رغم مُبادرة اثنين من القيادات إلى المنافسة، والتحاق أحدهما بالسباق فعلاً. بل إنهم شنَّوا حربًا شديدة الابتذال على المُرشَّح الذى يفوقُهم خبرةً وتجربةً واستقامة، ولم يتحالف مثلهم مع الجماعة الإرهابية قديمًا وحديثًا. فكأنهم باختصارٍ يخوضون معاركَ شخصية، لا القِيَمُ غايتُها ولا التراكمُ الصاعد؛ إنما الصراعات الصفرية والعداوات القبلية، وهنا يكتسبُ الملفُّ قيمتَه بما يُتيحه من فُرصٍ للابتزاز والتوظيف الدعائى، لا لأن الرئاسة طموحٌ ضائع ولا لأن فلسطين عقيدةٌ راسخة.
المنطقُ أنْ تحتاطَ مصرُ بكلِّ السُّبل، وعلى مبدأ الدوائر المُتلاحقة: ترفضُ التهجيرَ، وتتحسُّب من سياسات الاحتلال، وتستعدُّ بما تردُّ به لو مضى مخابيل تل أبيب فى جنونهم. ولا تتناقضُ الجاهزية مع الدبلوماسية، ولا تأمينُ الحدود مع إسناد الأشقاء والإخلاص لقضيّتهم. أمَّا مُحاولات تجفيف الرؤية من ثرائها لناحية البدائل والسيناريوهات، وحَشرُها فى زاويةٍ واحدةٍ من الفَهم والحركة؛ إنما يُترجِم ضعفًا فى النظر، وبُؤسًا فى الفِكر، ورثاثةً فى الاختصام السياسى، ولا أبلغ فى التفسير من أن يدعو التيَّار للتظاهر بينما قيادته الروحيّةُ صاحبةُ الدعوة خارج البلاد أصلاً، أو أن تُلوِّح أحزابٌ بدراسة الانسحاب من الائتلافيّة الباهتة؛ وقد شعروا أنهم يُصرَفون لرصيد آخرين، وتُتَّخذُ المواقفُ باسمهم دون نقاشٍ أو تنسيق، وبما يُلطَّخُ وجوهَهم بانحيازاتٍ لا تُناسِبُ برامجهم، أو لا تُشرِّفهم أمام قواعدهم وعُموم الجماهير.
ليس من باب تفتيش النوايا، ولا غرامًا بالتفسيرات السهلة؛ لكنّ لُغةَ البيان لم تخلُ من نكهةٍ إخوانية: الخطابة الفجّة، والإغراق فى العاطفية، وامتطاء صَهوة الحلول الشعبوية الرخيصة، ثمّ توزيع الاتهامات والالتزامات على الجميع، دون مُبادرةٍ ذاتية أو شراكةٍ فى أيّة أعباء، ولعلَّ القوميين وبقايا الماركسيين العرب يُحبّون اللغةَ الحرِّيفة والعبارات الرنّانة؛ لكنهم لا يهتمّون بتمييز أنفسهم عن خصمين مُتضادّين: الأُصوليّة الإسلامية بفائضها التعبوىّ الذى لا يُثير فى النفس شيئًا سوى الضحك، والصهيونية بنُزوعها الإلغائى الحارق وغرامها المشبوب بالحياة على حدِّ السيف، وإن كان الدواعشُ يستندون إلى جاذبيّة خطاب الاعتقاد، والنازيّون التوراتيون يملكون القوَّة ويحتمون بانحراف المنظومة الأُمميَّة؛ فإن باعةَ الوَهم الجميل من أصحاب البيان لا دِرهمَ لهم فى هذا أو ذاك. والأصلُ أن العبرانيِّين منشأُ المحنة والرابحون منها، والإخوان ما خدموا القضيّة ولا أخلصوا لها؛ بل إن حسن البنّا فى القديم عَسكَرَ بكشَّافته فى سيناء ولم يذهب للحرب، وخُلفاءَه فى الجديد سرقوا التبرُّعات عقودًا طويلة، وبصموا على صفقة القرن، ثم رهنوا فلسطين للعمائم السوداء، وأن ينجرف فريقٌ من اليسار والليبراليين لاستهلاك تقنيات العدو البعيد، أو إعادة إنتاج دعايات العدوّ القريب؛ فهذا ممَّا يُرثَى له ولا يُفسَّرُ إلَّا بالخَبَل وانعدام العقل، على إحسان الظنّ، وبالانحراف والاستتباع والدور المشبوه على إساءته؛ وفوق كلّ المآخذ أُعيذهم من سوء الظنون، ولا أرتضى لهم هكذا أدوار ومواقف وظيفية مُوجّهة.
إننا فى مَوسم احتشادٍ وإرباك؛ تتبعثرُ فيه الأوراقُ وتترتَّب على صُوَرٍ مُغايرة. وآخرُ ما يحتاجه الضحايا فى غزَّة من مُناصريهم، أن يتَّخذوهم منصَّةً للمُناورة السياسية، أو يطرحوهم فى مزاد التحالفات الظرفية والمكاسب العابرة، وإزاء السياق الطارئ بكلِّ ما فيه من جنون الصهاينة، وتجارة المُمانعين، وبينما الفلسطينيون بين مطرقة الانقسام وسِندان الأهواء الشخصية أو الأيديولوجية، لا شىءَ أكثر رواجًا من الاصطناع والتلفيق، ومن الاستثمار فى الشائعات والألاعيب النفسية، ويصعبُ أن يعرفَ الذين لا ينكشفون على خفايا المشهد ما ينفعُ ممَّا يضرّ. الصامتُ هنا أفضلُ من المتكلم، والقاعدُ أخلصُ من المُزايد، والاصطفافُ الوحيد يكون خلفَ الدولة وقيادتها، وما دونَه تشرذمٌ وتفتيت. المُراهق الذى يُعيدُ نشرَ شائعةٍ أو فيديو مُضلِّل، لا يختلف عن السياسىِّ الخبير؛ إذ يكتبُ بيانًا لا يمرُّ مُحتواه على العقل، ولا تتجاوز شعاراتُه سَقفَ الحَلْق.. الحيادُ فى امتحانات الأوطان خيانة؛ فماذا لو كان انحيازًا صارخًا ويُلوِّن نفسَه بألوانٍ خادعة؟! ثمَّة خيطٌ رفيع بين أن تُقاتل لقضيّةٍ وأن تقتُلَها، هو أن تقف بين الجانى والضحية؛ لا أنت تمنعُ الرصاصَ عنه ولا تمنحه مُتَّسعًا للرؤية الكاشفة والحركة الرشيقة. كثيرون يُحاضِرون فى فنون القتال، وقليلون للأسف يخوضون الحربَ فعلاً، والأسوأُ هم جمهورُ المُدرَّجات؛ إذ يصمتون فى مَوضع التشجيع، ويصخبون فى مواضع الصمت والوَقَار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة