شاهد المصريون فتى رقيقا تشع عيناه بحزن دفين، وينطق صوته بأسى غامض وساحر يترنم بكلمات محمد على أحمد، وألحان كمال الطويل فى أغنية «على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلم»، كانت الأغنية من قالب «الطقطوقة» وأذيعت لأول مرة يوم 4 يوليو 1954، ثم قدمها عبدالحليم فى أول أفلامه «لحن الوفاء» يوم 1 مارس، مثل هذا اليوم، 1955، حسبما يذكر المؤرخ الفنى الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «معارك فنية».
«كانت على قد الشوق كلمة السر التى فتحت مغاليق أبواب الشهرة والجماهيرية لعبدالحليم حافظ»، بوصف حنفى محمود، ووفقا للموسيقار عمار الشريعى فى حقلة «غواص فى بحر النغم» يوم 31 مايو 1992، فإن نجاحها يرجع إلى استعانة كمال الطويل بمقام «اللامى» وهو مقام عراقى فى صياغة لحن الأغنية، إلى جانب استخدامه لآلات الساكسفون والدرامز بين آلات الفرقة الموسيقية، مما أضفى روح البهجة والمرح فى جو الأغنية، وساهم بعد ذلك فى اجتذاب أسماع كل المصريين إليها.
ويكشف عبدالحليم عن أسرار هذه الأغنية، فى مقال نادر كتبه لمجلة الكواكب، عدد 195، يوم 26 إبريل 1955 بعنوان «قصة لحن»، ويقول فيه: «أجمل الألحان ما أوحى به الحب، أما حين يكون الحب فاشلا، فإن اللحن قد يبلغ الذروة، ولحن «على قد الشوق» من أجمل الألحان التى غنيتها، ولن أنسى له قصة، وهى أنه نبع من حب فاشل، هو حب صديقى الملحن كمال الطويل، فقد ذهبت إلى الإسكندرية مع كمال لنقضى بضعة أيام على شاطئ البحر الجميل، والتقى كمال بغادة هيفاء، وأخذ يحدثنى عن غادته فى حرارة، كنا نجلس على الشاطئ ساعات طوالا لا يكف خلالها عن الحديث عن فاتنته، ثم قلل كمال الحديث عن فاتنته، وكثر شروده، وأخذت الكآبة تشيع فى موسيقاه.
وذات يوم كنا نجلس على رمال الشاطئ، وكمال يدندن بلحن عربى، ثم مرت أمامنا ملهمة كمال، فاهتز كما تهتز أوراق الشجر حين تهب العواصف الهوجاء، وتعلقت بها عيناه، أما هى فمرت دون أن تحس بوجودنا، فإذا بكمال يدندن «على قد الشوق اللى فى عيونى.. يا جميل سلم»، وكان فى عين كمال شوق لم ينفد، قلت لكمال إن عبارة «على قد الشوق» تصلح مطلعا لأغنية عاطفية جميلة، وأشرت عليه أن يعرض الأمر على الشاعر الرقيق محمد على أحمد، وأتم محمد على هذه الأغنية الرقيقة فى أربعة أيام، ووعد كمال بأن يضع اللحن فى أقرب فرصة».
يضيف عبدالحليم: «مرت الأيام، والشهور، وكمال لا يحدثنى عن اللحن، ولا عن غادة الإسكندرية، وكنت أخشى أن أثير شجونه إذا ذكرته باللحن، والتقيت به فى الصيف التالى على شاطئ الإسكندرية أيضا وحدثنى عن حبه الضائع، وحدثنى عن اللحن، وقال إنه سينهيه حتما حين يعود إلى القاهرة، وعدنا إلى القاهرة، ومرت الأيام تباعا، وكمال لايحدثنى عن اللحن وأنا أتحرج عن تذكيره به، حتى لا يعتقد أننى إنما أريد أغنية».
يؤكد عبدالحليم: «أتمت الأغنية عامها الثانى، واجتمعت بكمال صدفة فى منزل الأستاذ محمد عبدالوهاب، وتحدثنا فى الفن، وفى الوحى والإلهام، وقال كمال إن حبا فاشلا أوحى إليه بمطلع أغنية منذ عامين، وأنه أنهى اللحن منذ يومين فقط، واسمعنا كمال اللحن على العود، فأعجب به الحاضرون جميعا، وغنيت اللحن فكان من أنجح أغنياتى».
بعد 19 عاما من إذاعة هذه الأغنية وتحديدا فى حوار للإذاعة عام 1974 قال عبدالحليم حافظ، للإذاعى الرائد طاهر أبوزيد: «على قد الشوق هى اللى خلت الناس تعرف عبدالحليم حافظ، تعرف اسمه، وتعرف ملامح صوته»، وقالت عنها الدكتورة نهلة مطر فى مقال «صوت هش يخترق القلب سريعا»، بجريدة الأخبار، 30 مارس 2015: «نلحظ اللحن الرقيق والدقيق جدا، يمتلئ ذلك الخط اللحنى بتعرجات كثيرة يطلق عليها الموسيقيون مصطلح «العُرب»، وأداء العندليب جاء كآلة كمنجة فى تمكنه فى تلك السحبات والتموجات التى لا يمكن أن يؤديها صوت جهورى، بل صوت خفيف متمكن جدا، لتأتى متماسكة متناغمة حيث يلحظها القلب وتنعشه، ولا يكتفى بإتقان هذه التموجات الخفية، بل يظهر بعضها مع تزايد انفعال الكلمات فى «دمعى شهودى جرح خدودى فى ليل سهودى».
يؤكد الباحث عمرو فتحى فى كتابه «موسوعة أغانى عبدالحليم حافظ»، أن الأغنية حظيت بتقدير النقاد، وحققت نجاحا جماهيريا باهرا، وأذيعت فى فترات الاستماع الرئيسية بالإذاعة فى تلك الفترة، ودفع نجاحها شركة «أفلام عمارة» لإنتاج فيلم «لحن الوفاء» الذى يعد أول أفلام عبدالحليم، وعرض بالتزامن مع فيلم «أيامنا الحلوة» بطولة عبدالحليم وعمر الشريف وأحمد رمزى وفاتن حمامة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة