أخطرُ ما فى سياسة حافة الهاوية أنها لا تُنذر أحدًا قبل الوقوع فى المحظور. وفى الوقت الذى يتصوَّر المُراهنون عليها أنهم يُمسِكون بمفاتيح اللعبة؛ فقد يجدون أنفسَهم فى نطاقٍ غير ما أرادوا، وتحت سقفٍ لا يُشبه ما توهَّموا أنه يُظلّهم ويحرسُ خطواتهم المحسوبة. وإسرائيل انتهجت هذا الأسلوبَ منذ عُدوانها على غزَّة قبل تسعة أشهر تقريبًا، مثلما اعتمده «حزب الله» فى تشغيله لجبهة الجنوب اللبنانى تحت عنوان المُشاغلة والإسناد، وما يحدثُ أنَّ الطرفين يتدحرجان ببطءٍ نحو المُواجهة الشاملة، بينما ينفى كلٌّ منهما أنه يُريدها أو يسعى إليها، وتقضى المصلحةُ المباشرةُ فعلاً بأنْ يتجنّبها قدرَ المُستطاع.. الحرب صارت أقربَ من أىِّ وقتٍ مضى، وحرارةُ الميدان تُلامس ما كانت عليه فى مُقدِّمات حرب العام 2006؛ بفارق أنَّ الظروف تبدَّلت تمامًا خلال العقدين، وموازين القوَّة أيضًا، ولم يعُد الغلافُ السياسىُّ المُرافق للجولة الجديدة يُشبه سابقتها. إنهما عدوَّان اختبرا بعضَهما، ويتحسَّب كلٌّ منهما لبأس الآخر؛ لكنهما يسيران كالمُنَوَّمَين باتّجاه الصدام.
افتتحَ «السنوار» مُغامرتَه فى السابع من أكتوبر؛ فتبعه حسن نصر الله فى اليوم التالى. وسارت الأمورُ من وقتها ضمنَ قواعد الاشتباك الراسخة على خطِّ التَّمَاس. والحال أنَّ الحزبَ ربطَ نفسَه بالجبهة الغزِّية، واشترط التوصُّلَ لتهدئةٍ فى القطاع قبل تبريد جبهته مع الاحتلال. وفى المُقابل؛ كان صقورُ الصهيونية من السياسيِّين والجنرالات مُنحازين منذ البداية لضربةٍ استباقيّة شمالاً، نجح نتنياهو فى تجنُّبها أوَّلَ الأمر؛ لكنه ربما يكون اليوم أكثرَ الراغبين فيها على ضوء المُتغيِّرات الداخلية، وتوازنات الأغلبية والمعارضة، وحاجته لتجديد عافية الحرب، وإنعاش حاضنته الغربية التى تلكَّأت فى دعمها، على أثر المذابح وأعمال الإبادة الجارية فى غزَّة. والمعنى؛ أنَّ الضمانة التى حصَّنَت جنوبَ لبنان من الاشتعال؛ صارت هى نفسها عاملَ الخطر الذى يُهدِّدها. والمُؤكَّد أنَّ ما يُسمَّى «محور المُمانعة» يقرأ التحوّلات على وقتها، ولديه رُؤيةٌ مُحدَّثة لإيقاع المشهد الصاخب؛ إنما لا يُعرَفُ فى أىِّ اتّجاهٍ يَمضى، وقد تآكلت قدرتُه على المناورة، وتعرَّت كثيرٌ من أعصابه الحسَّاسة. فالظرف اللبنانى غيرُ مُواتٍ لأيَّة مُنازعاتٍ خشنة، ورأسُ المحور مُنكفئ على أوضاعه الداخلية وإعادة تكوين السلطة التنفيذية بعد رحيل رئيسه فجأة، بينما الجبهةُ العراقية أُخضِعَت للترويض النسبىِّ بأثر الضغوط الأمريكية، وسوريا تنأى بنفسها عن طوفان الأقصى وتداعياته؛ ولعلَّ بشَّار الأسد يستشرفُ فى الحرب المُحتمَلة ما يُخفِّف الوصايةَ وقبضةَ الحُلفاء على رقبته. والخلاصُةُ أنَّ دُرَّة التاج فى المحور الشيعى يقفُ شِبهَ وحيدٍ فى الساحة، وقد يعرفُ سياقَ الرصاصة الأولى؛ لكنه لا يَملكُ تصوُّرًا واضحًا لما يُمكن أن تؤول إليه الأوضاع بعد تجاوز الخُطوط الحُمر.
التجربةُ الماثلة فى الذهن تعودُ لعقدين تقريبًا، كانت إسرائيل قد رحلت عن لبنان قبل ستِّ سنوات، وتبقَّت فى عُهدتها بعض الجيوب والمُرتفعات ونقاط الحدود الخلافية. غامر الحزبُ وقتَها باختطاف جُنديِّين؛ فاشتعلت الحرب. الكُلفةُ المُباشرة تجاوزت مئات القتلى وآلاف المصابين، مع أضرارٍ قاسية للاقتصاد والبنية التحتية، قُدِّرت بعدَّة مليارات من الدولارات. الفارقُ أنَّ الدولةَ كانت على حالها، والجبهة الداخلية لم تفقد وحدتَها؛ رغم تداعيات اغتيال رفيق الحريرى، ووقائع استعراض القوَّة فى العاصمة، وما ترتَّب على اتِّفاق الدوحة من تفعيل الثُّلث المُعطِّل فى شِبه إلغاءٍ ناعمٍ لمفاعيل الطائف. كما كانت الحاضنةُ العربيةُ سِياجًا حصينًا؛ تكفَّل بتقليص آثار العدوان وتعويض ما تهدَّم.. أمَّا اليوم فالأوضاع كلُّها على العكس ممَّا فات تمامًا: لا رئيس فى قصر بعبدا، والحكومةُ تُسيِّر الأعمال، وأغلبُ المناصب الرفيعة بالإنابة أو التمديد، والاقتصادُ فى أسوأ حالاته، وباختصارٍ تكاد لا تُوجد دولة من الأساس. يُتيح ذلك للحزب ورُعاتِه مزيدًا من الهيمنة والاستبداد بالقرار؛ إنما يحرمُه فى الوقت نفسه من الإطار الشرعى، ومن الفاعلية السياسية والاجتماعية المطلوبة لمواكبة الأزمات وامتصاص ضُغوطها. فكأنَّه إذ ينوبُ عن البلد بغطرسة الأمر الواقع؛ يحشرُه فى مَزنق الميليشيا بدلاً من صِفة الكيان الاعتبارى وبِنيته المؤسَّسية.
الصورةُ على الجانب المُقابل مُغايرةٌ تمامًا. ربما ينظرُ «نصر الله» للمسألة من زاوية الالتزام العقائدى، أو ضرورات التعاقد تحت راية المُمانعة ودعايات وحدة الساحات، ويتصوُّر أنَّ بواعثَه واضحةٌ ومفهومة لكلِّ الأطراف. أمَّا نتنياهو فيرى الخيطَ الواصلَ بين غزَّة ولبنان؛ لكنه يقطعُه فى عميق وَعيه، ولا يقتنع بانسحاب أيّة هُدنةٍ مُحتمَلَة فى الجنوب على حرائق الشمال؛ ولو أعلن الحزبُ ذلك وتبنَّته الولاياتُ المتحدةُ نفسُها. فزعيمُ الليكود لا يتقبَّل فكرةَ أن يكبشَ النار فيما بين الخطِّ الأزرق وجنوبى الليطانى، ولا أن يترُكَ البابَ مُوارَبًا لطوفانٍ آخر من جهة الجليل. إنَّ فلسفتَه الساعية إلى كَىِّ الوعى، واستعادة صُورة الرَّدع، وإعادة بناء توازنات القوَّة والرعب مع الجيران المُشاكسين جميعًا، تفرضُ كُلُّها عليه أن يفتتح المواجهةَ مهما تأجَّلت، ومهما بدا أنَّ الأمينَ العام ورجالَه يُراوغون فيها ويتهرَّبون من خطرها الداهم.
حلَّ مبعوثُ بايدن لشؤون الطاقة، آموس هوكشتاين، لثالث مرَّة فى المنطقة منذ الطوفان.. حَطَّ أوَّلاً فى تلّ أبيب؛ ليتلقَّى الخطة الإسرائيلية المُقترحَة للتهدئة، ثمَّ انتقل إلى بيروت عاقدًا سلسلةَ لقاءاتٍ مُعلَنَة وخفيّة، وبعدها عاد للعاصمة العِبريَّة بالحصيلة، والتى ستكون لها تأثيراتٌ مُباشرةٌ على سيناريوهات المرحلة المُقبلة. محورُ الاقتراحات يدورُ على إيقاف العدائيَّات، فانسحاب عناصر فرقة الرضوان ثمانية كيلو مترات عن الحدود، تمهيدًا لعودة مُستوطِنى الشمال وبحث المسائل الحدودية العالقة. لكنَّ «نصر الله» وضع جوابَه فى مظروفٍ جديد؛ إذ بالتزامُن مع الزيارة نشرَ جناحُه الإعلامىُّ مقطعَ فيديو يحملُ رسائلَ مُزعجةً للاحتلال وحكومته المُتطرِّفة، وعبر تسعِ دقائق ونصف يُشرِفُ على باقةٍ من المرافق الحيوية فى إسرائيل، ويُحدِّدُ ضِمنيًّا قائمةَ أهدافه فى أيّة مُواجهة مُقبلة، وهو إذ يُلخِّص رحلات طائراته المُسيَّرَة فوق ميناء حيفا وعددٍ من مُجمَّعات الصناعات العسكرية ومنصَّات القبَّة الحديدية ومقلاع داود، يُلمِّحُ إلى أنها قادرةٌ بطبيعة الحال على أنْ تستبدلَ القذائف بالكاميرات، وأن تذهب للتدمير كما ذهبت للرصد والمُراقبة وعادت آمنة. والمغزى بوضوح أنها لن تكون نزهةً، والتكاليفُ المُنتظَرَة قد لا تقلُّ عن نظيرتها فى الجنوب وبيروت.
الشريطُ المُصوَّر تضمَّن استعراضًا دقيقًا للمُنشآت المدنيَّة والعسكرية فى حيفا، ولعددٍ من أهمِّ تمركُزات الدفاع الجوى، فضلاً على مخازن أسلحةٍ ونفطٍ ومواد كيميائية، ومُجمَّعات سكنية وتجارية، وتكتُّل عُمرانىٍّ يقطنه نحو ربع المليون ساكن. منحَ الحزبُ شريطَه عنوان «هذا ما رجع به الهُدهد» فى إحالةٍ لقصّة النبى سليمان؛ لكنه ربما فاته أنَّ صاحبَ الحكاية الأصليّة أحدُ ملوك اليهود المُؤسِّسين، ومثلما دانت له الطيورُ الوديعة، فقد أخضعَ الجوارحَ منها ووحوشَ البَرِّ ومَرَدة الجِنّ، على ما تقولُ الروايةُ المُتداخلة بين العقيدتين بفارق النبوّة لدينا والمُلك لديهم. والحال أنَّ هُدهُدَ «نصر الله» سيُثير صقور نتنياهو وضباعه، أو أثارها بالفعل، وإشارة التحذير خافتة الصوت ربما تُنتج أثرًا عكسيًّا صاخبًا، وتُدير مُحرِّكات الجنون على آخرها؛ تسريعًا لوتيرة الحرب التى يخشاها الجميع، وينزلقون فيها بعنجّهيةٍ لا تقلُّ عن مِقدار الخشية والتوجُّس.
تتالتْ الردودُ سريعًا. وزيرُ الخارجية الصهيونىّ يسرائيل كاتس قال إنَّ غريمهم يتفاخرُ بتصوير مُنشآتٍ مَدنيّة تُديرها شركاتٌ دولية، صينية وهندية، وإنهم بصدد اتِّخاذ قرارٍ سيُغيِّر قواعدَ اللعبة ويُعرِّض لبنانَ لضرباتٍ قاسية. وإذ لم يُنكر أنَّ قُدرات الحزب تُهدِّد بأثمانٍ باهظةٍ داخليًّا وخارجيًّا؛ فقد وَضعَ دمارَه وحاضنتَه وكاملَ البلد فى المُقابل، وأكَّد ثقتَه فى قُدرة الجيش وما أسماه «وحدة الأُمَّة» على عبور الاختبار واستعادة الأمن. بعدها بقليلٍ أذاعَ الإعلامُ العبرىُّ ما يُفيد بتوقيعِ قرار العملية العسكرية فى الشمال، ورسم تفاصيل خُطَّتها؛ ما يشى بأنها صارت أمرًا واقعًا ينتظرُ إشارة البدء.. صحيح أنَّ المسألة ليست بتلك البساطة التى تعكسها سلوكيات تل أبيب؛ لكنها لا تستقيمُ أيضًا مع العنتريّة المُتسلِّطة على عقل الضاحية. إنها مُصادمةُ أفيالٍ قد يصعُبُ التنبّؤ بنتائجها؛ إنما على الأرجح ليست بالعدد نفسه فى كلِّ ناحية. كأنَّ فِيلاً واحدًا يتأهَّبُ لمُقارعة قطيعٍ كامل.
لدى الحزب أضعاف ما لدى حماس، ولعلَّه القوَّة غير الرسمية الأعلى تسليحًا فى العالم؛ لكنَّ التوازنات مع إسرائيل تميلُ للأخيرة. مع فارق أنَّ لديها حاضنةً مهما تآكلت فى غزّة؛ فلن تتأخَّر عن مُساندتها فى لبنان، وقد فعلت ذلك قبل شهرين فى ليلة الصواريخ والمُسيَّرات الإيرانية. يُضافُ لذلك أنها مُواجهةٌ بين دولةٍ ولا دولة تقريبًا، والأكثر تماسُكًا فيهما لديها مَنْ يُعوِّضونها عن أيَّة خسائر، بينما الهَشَّة المُتداعية أسلمت زِمامَ أمرها لمحورٍ أضعف من تدعيم ظَهرها، وقطعت أغلبَ صِلاتها مع البيئة العربية القادرة على مُداواة جُروحها الاقتصادية والمالية بعد الصدام. والمُعضلة أنه من غير المعروف إلى أىِّ مدىً يُمكن أن تسير إيران، وهل تفتحُ الجبهات الرديفة أم تتدخَّلُ بنفسها دفاعًا عن بَيْدقِها المُتقدِّم، وماذا عن مُفاوضات الغُرف الأمريكية المُغلقة، ومتاعبها مع العقوبات والحصار السياسى، وعدم جاهزيَّتها لمُواجهةٍ شاملةٍ لن تكون مع الصهاينة حَصرًا، بل مع طيفٍ أقرب لنسخةٍ مُصغَّرة من الناتو، وقد عاينت ما سبَّبه من متاعب لروسيا على الجبهة الأوكرانية وما زال يُلوِّح من بعيد، بينما فى الشرق سيشتبِكُ بالأصالة قَطعًا، وسيكونُ الأثرُ كاسحًا بينما يُطوِّق خاصرتها ويُحاصر أذرُعَها من اليمن إلى سوريا والعراق.
ثمّة احتمالٌ آخر لا يُمكن تجاوزه. لقد نسب الإعلام العبرى للموساد مؤخّرًا، ما يُفيد بانكشاف بيئة الحزب الداخلية لإسرائيل، وأنها تعرفُ مُستقرَّ الأمين العام وترصُدُ تحرُّكاته، ولا يمنعها من اغتياله إلَّا حسابات السياسة وتوازناتها القائمة. وبعيدًا من ترسانة التسليح وتسلسُل القيادة؛ فإنَّ أثمنَ الأُصول الشيعية فى لبنان هو حسن نصر الله نفسه. للرجل كاريزما لا تُنكَر، وصار خبيرًا بنَفسيّة العدو وطرائق الضغط على أعصابه، وهو مُتحدِّث مُفوَّه وإن كان بُندقيّة صوت، كما أنه رِباطٌ غليظٌ بين لبنان وعِمامة المُرشد. تأسَّس الحزب من رَحم الحرب فى 1982، وبعضُ الآراء تقولُ إنّه ظلَّ مُجرَّد شراذم ومجموعاتٍ شيعية مُتطرِّفة ومُتفرّقة لثلاث سنوات، حتى التأسيس الفعلى فى 1985. وأمينُه الحالىُّ هو الثالث فى الترتيب؛ لكنه يقبضُ على مقاليد السلطة منذ اثنين وثلاثين عامًا، أى ما يتجاوز ثلاثةَ أرباع عُمر المُنظَّمة فى الحدِّ الأدنى، وضعف ذلك فى الأعلى. والحال أنَّ المساسَ به خسارةٌ لا يسهُل تعويضُها كما تُعوَّضُ الأسلحةُ والذخائر، فضلاً عن أنه قد يُقوِّضُ غُرفةَ الإدارة العُليا ويُعطِّل مسار القرار. والأثرُ الأكبرُ فى كَسْر الرُّوح المعنوية للمُقاتلين، وتأكيد أنهم عُراةٌ من أيَّة حماية جادّة؛ وما طال سيِّدَهم المُقدَّس ومَرهوبَ الجانب قد يكونُ أقربَ إليهم ممَّا يتصوَّرون.
ربما لا يتحقَّق السيناريو هكذا، وتكون أحاديثُ الاحتلال دعاياتٍ لا تُعبِّر عن وُصولٍ حقيقىٍّ لأعمق حُصون الحزب. وحتى لو كان فى استطاعتهم النَّيْل منه؛ فقد تردعُهم التقاريرُ والتقديراتُ الأمنيّة ومخاطرُ الانفلات الهائج وغير المحسوب. لكنْ تظلُّ الخُطورة كلُّها فى تكسيح لبنان، وإسقاطه عن سرير الرعاية الفائقة الذى يعيشُ فى عُهدة أجهزته الدقيقة لسنواتٍ خَلَت. والواقعُ أنَّ قوَّة الحزب الحقيقية ليست فى تسليحه ومُقاتليه، ولا فى خطوط الإمداد التى فتحتها طهران عبر العراق وسوريا؛ إنما فى بيئته الداخلية ومدى تقبُّلِها لمُمارساته، واستعدادها لتغطية نزواته العسكرية بمُواكبةٍ سياسية، بحيث لا يبدو بعيدًا عن هياكل الدولة ولا خَصيمًا لمُؤسَّساتها الشرعية. والحال أنَّ التجُانسَ والوئام المَطلوبَيْن لبناء حالة الإجماع قد صارا فى أدنى المستويات، والجميعُ تقريبًا؛ باستثناء البيئة الشيعية، يرون أنهم يُساقُونَ كالذبائح فى طُقوسٍ قُربانيّة لا تخُصُّهم، ويَفصلون تمامًا بين واجبات التعاطُف والمُساندة الأخلاقية لفلسطين وأهلها، وأن يكونوا جبهةً رديفةً أو رافدًا يُغذِّى خزَّان الدم المسفوح؛ دون استشارةٍ أو اختيار. الحزبُ وأمينُه يُفسِّران الخوفَ الدَّوْلَتىَّ بين الجُبن والخيانة، ما يعنى أنَّ لبنانَ قد شُطِبَ كدولةٍ بالفعل، بدستورِه وطائفه وميثاقيَّته فى التعايُش، وحلَّ بدلاً منه تصوُّرٌ مذهبىٌّ غاشم، مُسلَّح للعَظم ولا يستند إلَّا لثقافة الميليشيا، وأهواء من يُديرون أجندةً أيديولوجيّةً مُتجاوزةً للمصالح القومية المُباشرة؛ انحيازًا لحساباتٍ إقليميّة فوق وطنيّة.
يملكُ الحزبُ ترسانةً حارقة، وأنفاقًا كشبكة القسَّاميِّين فى غزَّة، ولديه آلافُ المُقاتلين رَفيعى التدريب، وخبراتٌ مُتراكمةٌ من حرب 2006 وقتالِه الطويل ضد السوريِّين؛ لكنه من دون الصِّفَة الشرعيّة للدولة يظلُّ ميليشيا خارجةً على القانون. ويقولُ قادتُه إنهم ينتظرون التسوية مع «السنوار» لينخرطوا فيها؛ بينما نتنياهو أوقعَ الفصلَ بين الجبهتين بالفعل، ولم يعُد الإيقاعُ طرديًّا بينهما فى التهدئة أو التصعيد.. وهكذا لا يعودُ السؤالُ عن إمكانيّة الاشتعال من عدمه؛ إنما عن مَوعده، وهل يكون قريًبا أمْ يُرجَأ لاعتباراتٍ تخصُّ الطرفين، وفى الغالب ستكونُ إرادة الصهاينة أكثرَ تحكُّمًا فى الجبهة من نصر الله. حالُ التهدئة فى أجواء العيد، ورجوعُ أهل الجنوب النازحين لقُراهم ومقابر ذويهم، يُشيران لاتّصالاتٍ عميقة بين الجانبين؛ ولو بوساطة الجيش وقوات اليونيفيل الدولية. مثلما يُعبِّر حضور «هوكشتاين» عن حيويّةٍ لم تنطفئ فى ملف ترسيم الحدود، وكانت له تجربةٌ ناجحة على الصعيد البحرىِّ قبل سنتين، وبإقرار الحزب ومَالِكى قِيَادِه فى طهران. وهذا ممَّا يستبقى البابَ مُشرَعًا لإنجاز تفاهُماتٍ تمتصُّ سُخونةَ الجبهة؛ لكنها فى الغالب لن تُبرِّدها تمامًا، أو تُطفئ جمرَها الكامنَ تحت الرماد. والحقيقةُ أنّه مثلما كانت المُشاغلة غير مُثمرةٍ فى دَعم غزّة؛ فالتصعيد لن يُفيدَها، وربما يصرفُ الأنظارَ عن مِحنتِها كما فعلت «ليلةُ المُسيَّرات» أواسطَ أبريل الماضى.
غايةُ إسرائيل أنْ تُبيد الحزبَ، وهو كذلك؛ وليس بإمكانِ أحدهما أنْ يفعلَها، كما لا مساحةَ للتلاقى.. الحربُ على الأبواب، ولم يعُد الأمرُ خوفًا مُبالِغًا أو روائحَ بارودٍ تتطايرُ على جانِبَى الخطِّ الأزرق. اليمينُ الأُصولىّ والقومى المُتطرِّف يتخادَمُ كعادته، والاحتلالُ إذ يسعى لترشيد ما يراها مخاطرَ وُجودّية؛ فخصومُه يطمعون فى مواكب البطولة والهتاف النَّزِق كما كان قبل عقدين.. القصّة كلُّها أنَّ طرفًا يستبدُّ بالإقليم، والآخر يُنازعُه فى استبداده، وكلاهما يتربّح من العلاقة الشائكة. الخوفُ من كُلفة المُغامرات على لبنان؛ مثلما كانت ثقيلةً فى غزّة. سيجدُ الصهاينة من يُموّل نزواتهم، بينما يُغامرُ المُمانعون أصلاً بمالِ العرب ودمائهم؛ حتى ليَحْتَارَ المُراقِبُ فى تلك العداوة الغريبة، إذ يختلفُ العدوَّان على كلِّ شىءٍ تقريبًا، ويتَّفقان فيما سيتشاركان دمارَه مَعًا.