على مدار عصور طويلة، توسّع العرب في ممارسة التجارة على مستوى عالمي، ما راكم لديهم إدراكاً واسعاً بأهميتها في تحفيز الازدهار الاقتصادي. وتالياً، تراكم لديهم أيضاً وعي بأهمية جغرافيا التبادل التجاري والطرق المرتبطة بها. وتأتّى ذلك الوعي من توسّط المنطقة العربيّة بين الشرق والغرب، وكون نقل البضائع عبر الطرق التجارية في هذين الاتّجاهين شكّل دوماً وظيفة حيوية في التبادلات الدوليّة، وهو واقع ملموس عايشوه استناداً إلى الدور الذي مثلته المنطقة العربية في "درب الحرير" التاريخي.
اهتمت الدولة الأموية اهتماماً كبيراً بإنشاء الطرق لربط أجزائها التي امتدت من الصين إلى الأندلس (12 ألف كيلومتر) وتيسير الاتصال بينها. ونُسجِت تلك الطرق لتحقيق أغراضاً كثيرة، بعضها عسكري يتمثّل في تيسير حركة الجيوش، وبعضها الآخر اقتصادي يهدف إلى تيسير حركة التجارة، وثالثها إداري يسعى إلى تسهيل وصول الأخبار عن طريق رجال البريد، ورابعها ديني يهتم بتسهيل وصول حجاج بيت الله الحرام من كل أنحاء الامبراطورية إلى مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، وما إلى ذلك. كذلك اشتغل الأمويون بذكاء على شبكات الطرق التي ربطت عاصمتهم (دمشق) بمراكز الولايات كالفسطاط (القاهرة) والقيروان وقرطبة والكوفة والبصرة وخرسان وغيرها. إذ قسّموها إلى مسافات صغيرة محددة، وجعلوا لكل منها علامات تحمل أرقاماً، ليعرف المسافرون المسافات بين المدن والأقاليم. ويشبه ما فعله الأمويون العلامات الارشادية المستخدمة حاضراً في الطرق الحديثة. وكذلك عمد الأمويون إلى إعمار الطرق بالاستراحات التي خففت أعباء السفر على المسافرين.
وبصورة عامة، كانت الحركة على طرق الحج سبباً أساسياً في الاهتمام بتلك الطرق وصيانتها وازدياد عددها. إذ شهدت الجزيرة العربية سبعة طرق رئيسية للحج والتجارة هي: طريق الحج الكوفي، وطريق الحج البصري، وطريق الحج الشامي، وطريق الحج المصري، وطريق الحج اليمني، وطريق الحج العماني.
كذلك اتصلت تلك الطرق مع بعضها بعضاً في نقاط رئيسية أو بواسطة طرق فرعية. ولقيت طرق الحج عناية فائقة من قبل الخلفاء المسلمين، إضافة إلى الأمراء والوزراء والأعيان ومحبي الخير من التجار الذين اهتموا بإقامة منشآت متنوّعة في نقاط الاستراحة على تلك الطرق.
وتذكر المصادر التاريخية مشروع السيدة الجليلة زبيدة (زوجة الخليفة هارون الرشيد) لتطوير طريق الحج العراقي الذي عرف لاحقاً بدرب زبيدة. وجرى تخطيطه بطريقة هندسية بديعة تضمّنت تحديد اتجاهاته ورصف أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة، وإزالة الكتل الصخرية التي تعيق مسارات الطرق المختصرة المتفرعة منه، إضافة إلى تزويده بالمرافق الضرورية.
ولأن الطرق وهندستها تتصل بأحوال المجتمعات وثقافتها، مثّل التوسّع في التجارة عبر الأراضي الشاسعة للامبراطورية العربية- الإسلامية (في العصرين الأموي والعباسي وصولاً إلى العهد العثماني)، سبباً مباشراً في ابتكار فقهاء المسلمين أدوات اقتصاديّة هدفها جعل التبادل التجاري آمناً ومجزياً. وكذلك عملوا على تأكيد أهمية تثمير رأس المال الإسلامي طبقاً للمعايير الفقهيّة، خصوصاً فيما تعلّق بالتجارة ووسائلها وطرقها ودروبها.
ووردت معطيات جمّة عن ذلك في مصادر تراثيّة عدّة، نذكر منها "الإشارة إلى محاسن التجارة" للدمشقي، و"المبسوط" للسرخسي، و"الاقتصاد في الرزق المستطاب" للشيباني، و"الأموال" لأبي عبيد وغيرهم.
السِلَع رموز للتجارة الدوليّة
في المنحى عينه، ساهم التنوّع في الشراكات في نمو التجارة الإسلاميّة الواسعة التي امتدت من "كانتونغ" و"كاشغر" (الصين) مروراً بالإسكندرية وحلب ووصولاً إلى شنقيط وتنبكتو (أفريقيا).
وبالاختصار، شكّل التوسّع في فقه التجارة عنصراً أساسيّاً في ابتكار أدوات ووسائل وإمكانات في التبادل التجاري الذي اتّخذ منحىً مختلفاً عما كانه قبلاً، وتالياً، تأثّرت الطرق بذلك التبدّل النوعي الذي أصاب التجارة التي اتّخذت منحى مختلفاً عما كانته قبلاً.
كانت الطرق البرية الممتدة من الصين إلى سمرقند وبخاري معبراً للتجارة الدولية إلى أوروبا، خصوصاً في العصرين الأموي والعباسي، مع ملاحظة الوضع البارز الذي اتّخذته مدينة حلب فيها.
وعلى نحو مماثل، كانت السلع تنقل عبر طرق طويلة من دواخل القارة الأفريقيّة إلى مصر والمغرب ومنها إلى أوروبا. وشكّل الطريق الممتد من ميناء عدن مروراً بالجزيرة العربية ووصولاً إلى بلاد الشام، محوراً مهمّاً في نقل بضائع التجارة براً. وينطبق وصف مماثل على الطريق الممتدة من ميناء البصرة في العراق، وصولاً إلى بلاد الشام.
وآنذاك، مثّل عدد من السِلَع التجارية رموزاً لحركة التجارة الدولية. إذ اشتد الطلب على التواصل في العصور الوسطى في أوروبا، خصوصاً تلك القادمة من الهند، مع ملاحظة أن المسلمين كانوا متحكمين في طرق تبادلها بين آسيا والغرب.
اقتضى نمو طرق التجارة نمواً موازياً في معرفة العالم، وهو أمر عبر عن نفسه في ازدهار علم الجغرافيا. وظهرت مؤلفات لعلماء المسلمين في ذلك الشأن كـ"معجم البلدان" لياقوت الحموي. ويعتبر "المعجم" خلاصة وافية للجغرافية الفلكية والوصفية واللغوية التي تجمعت خلال القرون الستة الأولى للهجرة. ولم يقصر ياقوت عمله على العالم الإسلامي، بل وزّع اهتماماته على كل جهات العالم المعروف، وذكر أيضاً المصادر التي استقى منها معلوماته، ما حفظ كثيراً من أسماء كتب ضاع بعضها أو لم يصلنا منها سوى شذرات قليلة.
وعلى ذلك النحو، ظهرت مؤلّفات تصف الطرق والمسالك، شكّلت أدلة للتجار في سلوك أفضل الطرق الملائمة لهم. وعرّفَتْ تلك المؤلّفات (كـ"المسالك والممالك" للاصطخري) بأبرز المحطات على الطرق التجارية، مع صفاتها وميزاتها. وكذلك تقدّم علم رسم الخرائط عند علماء المسلمين بصورة غير مسبوقة، وبلغت إحدى ذراها في كتاب "البحرية" للتركي بيري رئيس.
في سياق مماثل، حدث تطوّر في علوم الفلك. ووُضِعَت جداول فلكيّة عن حركات النجوم، وازدهر علم الآلات الرصدية الذي كان يهدف إلى صنع نماذج مصغرة عن الدوائر النجمية الكبرى في السماء، إضافة إلى شرح أحوال الفلك. ويفيد رصد حركة النجوم والكواكب في تسيير حركة قوافل التجارة في الطرق البريّة، خصوصاً الصحراوية. ومن الأمثلة المعروفة على ذلك، آلة "الاصطرلاب" المتعددة الصفائح، التي وصفها أبو الريحان البيروني في كتابه القيم "الاستيعاب في الوجوه الممكنة في صنعة الاصطرلاب". وجاء فيه أن "الاصطرلاب آلة مسطحة يتحرك بعضها ويثبت بعضها الآخر كي تحاكي أشكالها أشكال الفلك بالحقيقة".
وتعني كلمة "اسطرلاب" اليونانية "مقياس النجوم". وظهر مختصون بتلك الآلة اتقنوا صنعها وتفنّنوا في أشكالها، حتى فاقوا الأمم التي كانت قبلهم. وانبرى عدد منهم لوصف كيفية صنعها واستخراج الأعمال الفلكية منها، والاسطرلاب الشائع أداة معدنية دائرية الشكل يتراوح قطرها بين عشرة سنتيمترات إلى عشرين سنتيمتراً.
تكنولوجيا الجمل وعمارة الخانات
هناك جدل مستمر عن عدم انتشار الطرق المعبّده التي تصلح لاستخدام العربات التي تجرها الحيوانات لنقل البضائع، على رغم ازدهار التجارة على الطريق البري الممتد من آسيا إلى أوروبا عبر أراضي العالم الإسلامي. في أزمنة سابقة، سمّي ذلك "طريق الحرير" تيّمناً بتلك السلعة الثمينة الآتية من الصين إلى الغرب. واشتُهِر عن الرومان أنّهم عبّدوا الطرق عبر إمبراطوريتهم بهدف أن تسير عليها الخيول ودواب اخرى، كالثيران والأبقار والحمير والبغال. وهدفوا من ذلك إلى تسهيل تحرّك جيوشهم عليها، والسيطرة على الاضطرابات في حال اندلاعها في ولايات بعيدة عن روما أو معسكرات الجيش الروماني.
أسّست "طريق الحرير" ومجمل شبكة الطرق الرومانية لحركة تجارية سهلة وسريعة، وكانت سبباً في ازدهار التجارة والاقتصاد في تلك الإمبراطورية. ولا تزال مسارات الطرق الرومانيّة أساساً لشبكات الطرق البرية في بلدان كثيرة، منها بلاد الشام.
وفي المقابل، وجد العرب في الجمل تقنية مناسبة في نقل البضائع وفضلوها على الثور والحيوانات الاخرى المستخدمة في جر العربات للأسباب كثيرة. إذ يستطيع الجمل ضعف ما تحمله الحيوانات الاخرى، ما يغني عن استخدام العربة وتكاليفها الكثيرة. ويفوق حيوانات الجر الاخرى في السرعة، ويستطيع السير ما يزيد على 40 كيلومتراً من دون توقف. ويتحمل الجمل مشاق إنجاز رحلات كثيرة سنوياً، ولا مشكلة لديه في خوض الأنهار، فيما ينبغي تفريغ حمولة العربات التي تجرها الثيران أو البغال. ويفوق الجمل حيوانات الجر الاخرى بأربعة أضعاف، كما يشتهر بالقدرة على تحمل الجوع والعطش.
وشكّلت اقتصاديات نقل البضائع بالجمل عاملاً حاسماً في اندثار العربات المجرورة في العالم الإسلامي، فضلاً عن التكلفة الباهظة لتعبيد الطرق للعربات. ولأن جيوشهم اعتمدت على الجمل، مثّل اهمال العرب الطرق المعبدة وسيلة لمقاومة هجمات الرومان بخيولهم وعرباتهم.
في مقابل إهمال الطرق المعبّدة، ازدهرت عمارة الخانات في العالم الإسلامي. وتأتي كلمة "الخان" من اللغة الفارسية، وتعني مكان مبيت المسافرين. وأقدم الخانات، خان عطشان (161ه/778م) وأول نص به إشارة إلى الخان يرجع إلى (610ه/1213م)، وهو محفور على الحجر ويؤرخ تأسيس خان العقبة.
والخانات نوعان: أولها شُيّد على طرق السفر خارج المدن، والثاني في دواخلها. في البداية، ظهر النوع الأول على منابع المياه ومجاري الأنهار، وقدم الخدمات للتجار والرحالة والمسافرين كافة، وووفر لهم الراحة وجنبهم مشقة السفر ليلاً ومخاطره. وكان يضم مستودعات لحفظ البضائع واصطبلات مختلفة لإيواء الخيول، فضلاً عن فرن ومصلى وحمام، وإلى جانب الأطباء والأطباء البيطريين حضر بعض أهل الحرف والصناعات لتقديم الخدمات وإنجاز إصلاحات تلزم نزلاء الخان.
تتفق خانات المدن مع خانات الطرق من حيث التصميم، بل لم يتغيّر تصميم الخان على مر العصور. ويتألّف من صحن مركزي مكشوف يتوسطه حوض، وتحيط بالصحن ممرات مسوّرة عرفت باسم "البوائك"، وتشيّد خلفها حوانيت. وتقي البوائك تقي من الحر صيفاً والمطر شتاءً. وأبرز الاختلافات بين خانات الطرق والمدن، وجود أبراج في أركان خانات الطرق للمراقبة والدفاع، فضلاً عن وجود سور خارجي مدعم وبوابة مصفحة ضخمة محكمة الإغلاق ليلاً، فكأنه حصن صغير.
يعتبر "خان أسعد باشا" في دمشق من أشهر خانات العالم الإسلامي، وأكثرها دقة من حيث العمارة ومراعاة قواعد فقه العمارة الإسلامية. بني الخان في عهد والي دمشق العثماني أسعد باشا، بين عامي 116ه/1751م و1167ه/1753م. وكان نزلاء الخان على اختلاف اهتماماتهم يجتمعون في فنائه الداخلي ليتبادلوا السلع، فتحول الفناء إلى سوق يومي. وأودعِتْ البضائعهم في حواصل الطابق الأرضي، بينما كانت طوابق الخان العلوية مخصصة لإقامة النزلاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة