المشهد - كما أتذكره - كان «فلاش باك» لشخصية كافريللى التى يؤديها ميشيل بيكولى، وأراد يوسف شاهين - فى لحظة إبداع - ألا تتوقف الكاميرا بين مشهد الحاضر ومشهد الماضى، كان المشهد الأول يدور ليلا بينما الثانى يحدث نهارا فى خيمة من مخيمات الحرب، تمر الكاميرا على شمعة مضاءة، يختفى الضوء عن فتيلها تدريجيا لتصل الكاميرا إلى مشهد النهار، وبصرف النظر عن الجهد الذى بذله فريق التصوير العبقرى بقيادة محسن نصر لإنجاز هذا المشهد بتعقيداته «نوع الإضاءة التى لم تكن متطورة وقتها بدرجة كافية، فتحة العدسة، نوع الخام المستخدم الذى يختلف فى حساسيته بين الليل والنهار... إلخ»، فقد نشأت مشكلة لوجستية، وهى كيف يمكن إطفاء الشمعة التى تمر عليها الكاميرا بهدوء وبساطة وتدريجيا، هنا طرح جو الفكرة على عباس على طريقته: «ما اعرفش تتعمل إزاى، إتصرف يا عباس قدامك نص ساعة، خليها ساعة يا أستاذ»، ذهب عباس إلى حى الغورية المجاور لموقع التصوير فى «بيت السحيمى»، حيث كنا نصور قبل انتقالنا إلى ستوديو جلال لتصوير مشاهد المعسكر الفرنسى، واشترى عددا كبيرا من الشموع ذات الأحجام والألوان المختلفة، وجاء بماسورة رقيقة أوصلها بأنبوبة بوتاجاز عبر خرطوم صنعه كى يكون آمنا، ودفع بالماسورة فى منتصف الشمعة وفتح الأنبوبة متحكما فى تدفق الغاز ثم تابع حركة الكاميرا، وهى تعبر على الشمعة مغلقا صمام الأنبوبة بحساسية حتى انطفأت تماما وانتقل المشهد إلى النهار، بهر ميشيل بيكولى وهو يرى هذه العبقرية التى تحدث أمام عينيه ببساطة ودون تكلفة تذكر، ولكن الحكاية لم تنته هكذا، إذ كان طلب جو أن يحدث العكس أيضا بحيث تمر الكاميرا فى الاتجاه المضاد من مشهد النهار إلى مشهد الليل فتضاء الشمعة ويبدأ المشهد، تعقد الأمر، اذ أن الشمعة المطفأة - والتى تعمل بالبوتاجاز - تحتاج إلى هواء لكل تشتعل وهو ما لا يتوافر داخل الشمعة فماذا يفعل عباس؟ التف من خلف الشمعة وقطعها طوليا بيحث يتوافر الهواء للغاز، ولكن قص الشمعة على هذا النحو جعلها شفافة بحيث ظهرت بداية الشعلة بما يجعل المشهد كله مصطنعا فهل يئس عباس؟ طلب 10 دقائق أخرى وجاء بأسبراى أسود، ورش به باطن الشمعة من الداخل، بحيث لا يظهر ضوء الشعلة إلا عندما يفتح الغاز وتمر الكاميرا، بينما تشتعل الشمعة فى هدوء وينتقل المشهد إلى الليل مرة أخرى، ومرة أخرى يهتف بيكولى: «إله صغير»، أما يوسف الذى يعرف قدرات عباس الخارقة، فلم يزد على قوله: «برافو ياعباس، مش بطال».
طبعا هذا المشهد الآن يمكن تنفيذه ببساطة باستخدام الجرافيك ومعدات التصوير وخامات التصوير وعدسات التصوير المتقدمة دون أى جهد ولكن منذ أربعين سنة كان التنفيذ إعجازيا وتلقائيا، ربما لم يتذكره أحد حتى عباس نفسه!
كانت أجواء التصوير مزيجا من المتعة والإرهاق، كان حسام على يذهب إلى مواقع التصوير فى شوارع القاهرة القديمة من حى الحسين والغورية وحتى الإسكندرية يعيد بناء المكان مع مهندس الديكور العبقرى أنسى أبوسيف، فتختفى أعمدة النور وأسلاك التليفون ولافتات المحلات، ويستقبل الخيل ويجهزها، ثم تبدأ منذ ساعات الفجر ناهد نصر الله مع كثير من المساعدين والمساعدات عملية (تلبيس) المجاميع والشخصيات المصرية والمملوكية والفرنسية بأعداد مهولة، حتى يمكن بداية بروفات التصوير فى منتصف النهار، أو بعد ذلك، كانت ملابس المماليك بالذات مبهرجة الألوان، ومتعددة الطبقات، ذات قماش ثقيل، يتكون من ستان لامع فى الغالب، وطبعا «جو» - مع مصممى الملابس - كان يقصد ذلك كدلالة على كون سمعة المماليك كمقاتلين غير حقيقية، فهدفهم كان الإشهار «والمنظرة»، وليس القتال الحقيقى فى تناقض مع ملابس الفرنسيين الخفيفة والعملية، وطبعا ملابس المصريين التى لا تكاد تستر عوراتهم فهى بالية ذات ألوان محدودة.
ولم يكن «جو» - مع ذلك - يقنع بأشكال المجاميع حين يستخدمهم فى مقدمة الكادر، أو حتى فى خلفيته، خاصة مع استخدامه عدسات واسعة ذات بعد بؤرى كبير، يخشى «جو» من فقدان التأثير الناتج عن صورة ليست محسوبة بجميع عناصرها ولذلك كان يطلب كثيرا مساعديه أن يلبسوا ملابس المجاميع، ولم نكن نملك حق الرفض طبعا، وبذلك كنت جنديا مملوكيا مرتين، وأمتلك صورا أعتز بها، أحدهما فى قلعة قايتباى، وأذكر أنى كنت أقف فى خلفية الكادر عندما فاجأنى الزميل يسرى نصر الله قائلا: «يا مجدى الأستاذ بيقول لك شكلك طيب قوى، مش شكل مماليك، كشر شوية»، فابتسمت وفعلت، فمن يملك أن يقول «لا» للأستاذ؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة