تسرب وباء الكوليرا إلى قرية موشا بأسيوط فى 25 مايو 1902، فمنعت الحكومة دخولها والخروج منها، لكن الوباء تسرب إلى البلاد المجاورة، حسبما يذكر الدكتور نجيب محفوظ، أحد رواد الطب بمصر فى مذكراته «حياة طبيب»، وكان من الأطباء الذين سافروا إلى «موشا»، ووضع خطة علاج الوباء فيها.
أصاب الوباء عزبة الكيلو قرية الدكتور طه حسين بمحافظة المنيا، وابتليت به أسرته فترك أثرا فيه استمر طوال حياته، وفى سيرته «الأيام» يتحدث عن هذه المحنة، قائلا: «هبط وباء الكوليرا مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا، ومحا أسرا كاملة، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة».
يذكر «طه» أن أمه كانت فى هلع مستمر، تسأل نفسها ألف مرة كل يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها، وكان لها ابن فى الثامنة عشرة، يصفه: «جميل المنظر، رائع الطلعة، نجيب ذكى القلب، أنجب الأسرة وأذكاها وأرقها قلبا، وأصفاها طبعا، وأبرها بأمه، وأرأفها بأبيه، وأرفقها بصغار إخوته وأخواته، وكان مبتهجا دائما، وظفر بشهادة البكالوريا، وانتسب لمدرسة الطب، وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة، فلما كان هذا الوباء، اتصل بطبيب المدينة ليرافقه ويقول: إنه يتمرن على صناعته».
يتذكر «طه» أن الابن أقبل آخر يوم فى حياته كعادته مبتسما، فلاطف أمه وداعبها وهدأ من روعها وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، ووطأة الوباء تخف، ومع ذلك شكا من بعض الغثيان، وخرج إلى أبيه فجلس إليه وحدثه كعادته، ثم ذهب لأصحابه، فلما كان أول الليل عاد وقضى ساعة فى ضحك وعبث مع إخوته، وزعم أن فى أكل الثوم وقاية من الكوليرا، وأكل الثوم وأخذ كبار إخوته وصغارهم بالأكل منه، وحاول أن يقنع أبويه بذلك فلم يوفق.
يضيف «طه»: «كانت الدار هادئة مغرقة فى النوم كبارها وصغارها وحيوانها، عندما انتصف الليل، ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ، فهب لها القوم جميعا، وكان مصدر هذا كله صوت هذا الفتى وهو يعالج القىء، وكان الفتى قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه، ويمضى إلى الخلاء للتقيؤ مجتهدا لألا يوقظ أحدا، حتى إذا بلغت العلة منه أقصاها لم يملك نفسه».
فزع أهل الدار جميعا وحضر الطبيب فوصف ما وصف وانصرف، وطلب الفتى أن يبرق لأخيه الأزهرى بالقاهرة ولعمه فى أعالى الإقليم، وكان يطلب الساعة من حين إلى حين ينظر فيها كأنه يتعجل الوقت، وكأنه يشفق أن يموت دون أن يرى أخاه الشاب وعمه الشيخ، يضيف «طه»: «يا لها من ساعة منكرة هذه الساعة الثالثة من الخميس 21 أغسطس «مثل هذا اليوم» سنة 1902، مات الفتى وما هى إلا ساعة حتى هيئ للدفن، ومن ذلك اليوم استقر الحزن العميق فى دار الشيخ حسين على سلامة، وتعود الشيخ ألا يجلس إلى غدائه ولا إلى عشائه حتى يذكر ابنه، ويبكيه ساعة أو بعض الساعة، وأمامه امرأته تعينه على البكاء، ومن حوله أبناؤه وبناته يحاولون تعزية هذين الأبوين فلا يبلغونه منهما شيئا، فيجهشون جميعا بالبكاء».
تغيرت نفسية «طه» تغيرا تاما، يؤكد أنه عرف الله حقا، وحرص على أن يتقرب إليه بكل ألوان التقرب، بالصدقة حينا، وبالصلاة حينا آخر، وبتلاوة القرآن مرة ثالثة، وكان يأتى ما يأتى من ضروب العبادة يريد أن يحط عن أخيه بعض السيئات، كان أخوه فى الثامنة عشرة، وسمع «طه» من الشيوخ أن الصلاة والصوم فرض على الإنسان متى بلغ الخامسة عشرة، فقدر فى نفسه أن أخاه مدين لله بالصوم والصوم ثلاثة أعوام كاملة، ففرض «طه» على نفسه الصلوات الخمس فى كل يوم مرتين، مرة لنفسه ومرة لأخيه، والصوم فى السنة شهرين، شهرا لنفسه وشهرا لأخيه، وليكتمن ذلك عن أهله، وليجعلن ذلك عهدا بينه وبين الله، وليطعمن فقيرا أو يتيما مما تصل إليه يده من طعام أو فاكهة قبل أن يأخذ حظه منه.
أوفى «طه» بهذا العهد عدة أشهر، ويكشف أنه من ذلك اليوم عرف أرق الليل، وكم أنفق سواد الليل كاملا يفكر فى أخيه، ويقرأ سورة الإخلاص آلاف المرات، ثم يهب ذلك كله لأخيه، أو ينظم شعرا يذكر فيه حزنه وألمه لفقد أخيه، معنيا بألا يفرغ من قصيدة حتى يصلى فى آخرها على النبى واهبا ثواب هذه الصلاة لأخيه.
يضيف أنه من ذلك اليوم عرف الأحلام المروعة، فعلة أخيه كانت تتمثل له فى كل ليلة، واستمرا أعواما ثم تقدمت به السن، فأخذت علة أخيه تتمثل له من حين إلى حين، وأصبح فتى ورجلا، وتقلبت به أطوار الحياة، وهو ما هو على وفاء لهذا الأخ، يذكره ويراه فيما يرى النائم مرة فى الأسبوع على أقل تقدير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة