جاء متعهد الحفلات، صديق أحمد، إلى المطرب الجديد عبدالحليم حافظ فى الإسكندرية ليقول له إنه يقيم حفلات كبيرة فى المسرح القومى بالإسكندرية، ويرغب فى تقديمه على هذا المسرح، وأنه يتوقع أن يغنى أغانى محمد عبدالوهاب القديمة، لكن عبدالحليم رد عليه بوضوح أنه سيغنى أغانيه الخاصة، فسأله «صديق» عن ملحنيها، فأجابه «عبدالحليم»: «كمال الطويل ومحمد الموجى»، حسبما يذكر «عبدالحليم» فى مذكراته الخاصة «حياتى» المنشورة بمجلة «صباح الخير، عدد 922، حلقة عبدالوهاب وأنا، 6 سبتمبر 1973».
يكشف «عبدالحليم»: «وافق المعلم صديق على أمل أن يقنعنى بعد ذلك بغناء أغنيات عبدالوهاب، كنت أحس ذلك من موافقته، وسافرت أنا وكمال الطويل ومحمد الموجى، وأصعد إلى المسرح، أغنى أغنياتى والجمهور لا تعجبه الأغنيات، ويقول الجمهور: «انزل، إيه الغنا ده»، طلب منى المعلم صديق أن أتراجع وأغنى أغانى عبدالوهاب القديمة بعد أن أحس بفشل، رفضت، قال: يا ابنى أنا عايز أخدمك وأخدم نفسى، رأيت فى عيونه رغبة أن يسدى إلى جميلا، قلت: «حاضر».. فكرت قليلا فى هذا الجميل، عرفت أنه «جميل قاتل»، أرد إلى المعلم صديق العربون وأعتذر، كانت هى الخمسة جنيهات الوحيدة فى جيبى، أخرجتها وأعطيتها له، كنت مفلسا تمام الإفلاس، لم يبق إلا أن أهمس فى أذن تحية كاريوكا: معاكى خمسة جنيه سلف، أخرجت خمسة جنيهات وقدمتها لى، قررت أن أسهر الليلة مع الأصدقاء، بقيت فى الإسكندرية مع كمال الطويل، فوجئت أن تحية كاريوكا تخانقت أيضا مع المعلم صديق، وتركته».
جرت وقائع هذا الحدث فى 7 أغسطس، مثل هذا اليوم،1952، وكان الاتفاق أن يغنى عبدالحليم شهرا كاملا، وكانت أغنياته التى رفضها الجمهور «صافنى مرة - يا حلو يا أسمر»، وفقا للطبيب الخاص لعبدالحليم وصديقه الدكتور هشام عيسى فى كتابه «حليم وأنا».
يقول الدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «معارك فنية»: «إن الجمع الثائر ليلتها منع المطرب الجديد من غناء أغنيات عرف بها فيما بعد، إذ لم توافق نبرة الغناء ما ألفته آذان جمهور الحفل من أصوات نجوم الغناء فى ذلك الزمان، من أمثال محمد عبدالمطلب، عبدالعزيز محمود، عبدالغنى السيد، كارم محمود، وغيرهم».
كان مجدى العمروسى، صديق عبدالحليم ومدير أعماله، شاهدا على الحدث، ويتذكر فى كتابه «أعز الناس» أنه ذهب إلى عبدالحليم فى المسرح بعد اتصال منه، فوجد الجمهور غير متجاوب معه إطلاقا، وعبدالحليم يرفض الغناء لعبدالوهاب أو لعبدالعزيز محمود، وأخيرا توقف عن الغناء وأوقف الموسيقيين خلفه، وقال: «أنا جيت أغنى الأغانى بتاعتى، ولن أغنى أغانى مطرب آخر»، ويضيف أن عبدالحليم نزل من على المسرح، ومعه بعض الموسيقيين، وشخص رفيع وطويل وله شنب دقيق، ويحمل العود وهو «محمد الموجى».
يذكر «العمروسى»: «وجدت عبدالحليم حزينا جدا، وبعض من حوله فى شبه مواساة، ثم جاءت سيدة عرفنى بها على أنها تحية كاريوكا، وأخذت تطيب خاطره، وتقول: «الجمهور مش فاهم، بكره يفهمك ويقطع إيديه من التصفيق لك، وإن كنت عايز أى حاجة أنا تحت أمرك، فابتسم عبدالحليم ولم يعلق، ثم جاء بعدها شخص عرفت أنه إسماعيل ياسين، وأخذ يطيب خاطر عبدالحليم».
استمر الخلاف بين عبدالحليم والجمهور فى الليالى التالية، وحسب «العمروسى»: «طلب متعهد الحفلات من عبدالحليم أن يغنى ما يطلبه المستمعون، فانقلب عبدالحليم من الشخص الضعيف النحيل إلى رجل صلب له كلمته وله رأيه، الذى أصر عليه وتمسك به، وساندته تحية كاريوكا، ومرت عشرة أيام صعبة، حاول المتعهد فيها أن يتفاهم مع عبدالحليم بهدوء، ورأى عبدالحليم أن يكمل الشهر بشرط أن يغنى أغانيه فقط، أو أن يتوقف عند هذا الحد، وتضامنت معه تحية كاريوكا وإسماعيل ياسين، فوافق المتعهد على الحل الثانى، وحاول أن يدفع لعبدالحليم العشرة أيام، لكن عبدالحليم رفض بشدة».
لم تهتز ثقة عبدالحليم فى نفسه بسبب هذه الأحداث، بتأكيد هشام عيسى، قائلا: «مضى فى طريقه يقدم ذلك الأسلوب الجديد الفريد فى الغناء»، ويقول نبيل حنفى محمود: «مثل حفل الإسكندرية واحدة من محاولات عبدالحليم لجذب انتباه جمهور الغناء إلى ما يبشر به من جديد، وهى محاولات شملت أيضا إطلاق مجموعة من الأغنيات فى النصف الثانى من عام 1952، وهى مصادفة تبدو وكأنها إشارة قدرية إلى ما سوف يجمع بين القادم الجديد إلى دنيا الغناء بصوت يحمل سمات لهجة غنائية جديدة، وبين الثورة التى قامت لتغيير بنية المجتمع المصرى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة