احتدم الخلاف داخل اجتماع مجلس الوزراء فى أواخر عام 1953، لرفض جمال عبدالناصر نائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية، الإبقاء على اسم الأديب والمفكر توفيق الحكيم فى قائمة التطهير، التى وضعها وزير المعارف إسماعيل القبانى للتخلص من موظفين «غير منتجين» فى وزارته، وإحالتهم إلى المعاش، وفقا للدكتور لويس عوض فى كتابه «الحرية ونقد الحرية»، وحسب الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، فى كتاب «عبدالناصر والمثقفون والثقافة» للكاتب يوسف القعيد.
يصف «هيكل» «القبانى» بأنه «كان من خيرة رجال التعليم»، ويؤكد: «هذا ليس رأيى وحدى، ولكن الناس كلها أجمعت على هذا»، مضيفا، أن توفيق الحكيم كان يعمل مديرا لدار الكتب التى تتتبع وزارة المعارف، وطلب «القبانى» من وكيل وزارته أن يتصل به ويعرض عليه ضم السنوات الباقية حتى سن الستين («كان عمره 57 عاما» ويخرج بمقتضى التعديلات الممنوحة فى عملية التطهير، وكانت أسباب «القبانىى» فى ذلك، أن الحكيم ليس إداريا، وكونه أديبا معروفا ومشهورا ليس معناه أن يصلح لأن يكون مديرا لدار الكتب، وكان كسولا لا يذهب إلى العمل كل يوم، ولا فى مواعيد العمل المعروفة.
يؤكد «هيكل» أن توفيق الحكيم وافق على الاقتراح، وبعدها عرض القبانى القائمة على مجلس الوزراء، فسأله عبدالناصر: هل هى رغبة الحكيم؟ فرد القبانى: إنها فعلا رغبته، فقال عبدالناصر: خلاص ما دام ترغبته، وهكذا أعدت الكشوف على هذا الأساس، وفى هذه الأثناء تراجع «الحكيم» بنصيحة من صديق عمره الدكتور حلمى بهجت بدوى الذى قال له بدقة: «كده حتتاخد فى الرجلين».
لجأ توفيق الحكيم إلى صديقه «هيكل» لأخذ رأيه فى الموضوع، وكان الاثنان يعملان معا وقتئذ فى جريدة «أخبار اليوم»، وعبر «الحكيم» عن مخاوفه لهيكل قائلا، إنه بقبوله فكرة الإحالة إلى المعاش سيبدو أنه خرج فى التطهير، وأن النظام غير راض عنه، وأن هناك ما يؤخذ عليه، وهذا يضايقه لاعتبارات كثيرة، فهو الوحيد الذى لم يأخذ موقفا فى العهد السابق، ولم تكن له صلات بأحد، ولم يتورط مثل غيره لا مع الوفد ولا مع القصر.
يكشف «هيكل»، أنه حكى لعبدالناصر بكل دقة ما جرى، فرد عبدالناصر: «من غير المعقول ولا المتصور أن نأتى نحن ونُخرج واحدا مثل توفيق الحكيم»، وتحدث عبدالناصر فى الموضوع مع القبانى الذى قال: «العودة فى الأمر ورفع الاسم من الكشوف أصبحت مسألة محرجة، لأن الأمر من المفروض انتهى».
يذكر «هيكل»، أن القضية أثيرت فى جلستين لمجلس الوزراء، وجرى فى الجلسة الأولى حوار مُتعب، بدأه القبانى بعرض الكشوف النهائية، وتحدث عبدالناصر فى موضوع الحكيم، قائلا: «هذا موضوع مهم وخطير جدا، لأنه لا يمكن تصور أن تأتى الثورة وهذا النظام الجديد ونرفت توفيق الحكيم، بل يخرج فى سياق آخر ونكرمه بمناسبة خروجه».
رد «القبانى» على كلام جمال عبدالناصر قائلا، بأن الأمر أصبح مسألة كرامة واختصاصات، وأنه تصرف فى القضية باعتبار أن توفيق الحكيم هو الذى طلب الخروج بنفسه، وقال العبارة التى أصبحت معروفة: توفيق الحكيم مثل سيئ لموظف الدولة، بصرف النظر عن قيمته الأدبية، الحكيم إنسان كسلان لا يذهب إلى مكتبه، وإن ذهب تٌعرض عليه مسائل، لا يعرف أى شىء فيها، وهناك شكاوى كثيرة من الإدارة ضده، رد عبدالناصر: افترض أن الحكيم اختار هذا، ثم اكتشف بعد ذلك أنه سيجد نفسه فى صيغة ليست مقبولة، وفى وضع ليس جميلا، من حقه أن يغير رأيه».
بعد يومين عقد مجلس الوزراء جلسته الثانية، وطلب عبدالناصر خلال الجلسة إثارة الموضوع، وقال إننا لا يجب أن نأخذ الموضوع مسألة كرامة، إنه أكثر من كرامة الأشخاص، نحن أمام أديب ومفكر وفنان مصرى، إن عاملناه بمعايير الموظفين يصبح الموقف معيبا جدا فى حق الثورة، ويذكر هيكل، أن عبد الناصر وصف التصرف الذى جرى مع الحكيم بأنه «بيروقراطية»، فأخذ القبانى الكلمة على نفسه، وقال: «ما دام أنا بيروقراطيا أنا أستقيل»، وأخذ بعضه وخرج من الاجتماع، ثم أرسل الاستقالة.
يذكر لويس عوض، أن فتحى رضوان وكان وزيرا للإرشاد القومى أدلى ببيان للصحف عما جرى من مداولات فى مجلس الوزراء بشأن القضية، واعتبر القبانى نشرها فى الصحف إحراجا له، ومؤاخذة لتصرفاته فاستقال من منصبه يوم 3 يناير، مثل هذا اليوم، 1954، ويؤكد عوض: «بدا للرأى العام عندئذ أن جمال عبدالناصر وضع الوزير فى كفة والأديب فى كفة، فرجحت كفة الأديب على كفة الوزير».