يبدو أنه كتب علينا أن ننجر دائما لمعارك "تافهة"، وأن نقف لنرد على أصحاب عقول أقل توصيف لها هو أنها "مريضة"، تلك العقول التى نخرها التطرف، وجعلها تستفيق لتخرج علينا بآراء صادمة ومثيرة للدهشة، خصوصًا وإننا لا نستوعب كيف قرر أن يخرج علينا نائب شعب همام بآراء صادمة ليصف أدب نجيب محفوظ بأنه خادش للحياء العام، وأن "السكرية وقصر الشوق" هى أعمال تضم العديد من الأحداث والشخصيات التى خدشت حياء سيادة النائب، والتى أراهن نفسى على أن سيادته بمجرد أن يرى الفيلم معروضا على إحدى القنوات فإنه يتمنى أن يكون مكان أحمد عبد الجواد (يحيى شاهين) ذلك الرجل صاحب الشخصية القوية والمسيطرة والذى "يشكم" أهل بيته ويرتعبون بمجرد سماع "نحنحته"، والذى يملك حياة أخرى وسط العوالم والراقصات وهى حياة الفرفشة والبهجة"..
فيلم قصر الشوق
هذا الرأى وغيره مما قيل أسفل قبة مجلس النواب المصرى، حيث اعتبر آخر أن بعض الأعمال الأدبية تحتوى أفعالا فاضحة، أقل ما توصف به أنها تسبب الغثيان لأنه لا يصح ولا يجوز أن يتم اجتزاء شخصيات وخلعها من سياقها الدرامى، واستغلاها لنرجم "نجيبنا" وأديبنا العظيم المدهش حقًا، أن يتم توصيف نص بديع مثل الثلاثية بأنه عمل خادش للحياء وهو العمل الذى يحمل كشفا وتوصيفا دقيقا لنمط الحياة الاجتماعية والسياسية فى هذا الوقت الثلاثية التى تعد عدة روايات فى نص واحد، نص صاحب الألف صفحة، ويزيد، والذى تم كتابته فى حوالى سبع سنوات من عام 1945 حتى بدايات 1952، ولم تصدر إلا فى عام 1956 بعد أن تم تجزئتها إلى ثلاثة أجزاء، وهو العمل الذى يعادل كتابة عشرين رواية بعدد شخصيات الثلاثية، كل شخصية فيها تمثل رواية مستقلة، وكيف أن الأديب الرائع نجيب محفوظ جعل هذه الشخصيات تنصهر فى عمل واحد ودراما واحدة دون أن يكون هناك خلل ما.. فهل تستطيع أن ترى أمينة أو الست أمينة بمعزل عن ظرف مجتمعى رجعى قاهر للمرأة ؟ هل تستطيع أن ترى ضعفها واستكانتها بعيدا عن جبروت وسطوة سى السيد، (فأمينة) امرأة نقية عفيفة أكبر خطأ ارتكبته فى حياتها أنها زارت سيدنا الحسين دون إخبار سى السيد وعقاب لها على إجرامها كسرت قدمها - كما صورت الرواية، أو عائشة وخديجة واللتان يتم إعدادهما للزواج ليس إلا فى مقابل "مريم" المتحررة والواعية بحقوقها، هل تستطيع أن تشاهد السكرية وقصر الشوق بدون ياسين الفيلسوف، والذى قد يراه البعض مجرد "هلاس"، ومن هو الذى يملك قدرة الفصل الحاد بين عالم "العوالم" وحياة العوامات والبلد الذى كان يموج بالثورة فى هذا الوقت.
السكرية
المفارقة الحقيقية أن نموذج المرأة الضعيفة المستكينة أو التى تنحرف عن الطريق كان متواجدا بكثافة فى أدب نجيب محفوظ، والروايات التى قدمت فى السينما ستجد أن نموذج العوالم، والمرأة المقهورة والعاشقة والمضحية حاضرا بقوة، ورغم ذلك لم تتخذ الحقوقيات والمدافعات عن المرأة موقفا معاديا من الكاتب الكبير، العكس تماما أن أغلب شخصياته النسائية صارت مرادفا لقسوة مجتمع يعامل المرأة دائما على أنها مواطن درجة تانية، وقد يكون السبب الرئيسى فى ظنى أن محفوظ عشق شخصياته بكل تناقضاتها.. ومثلا شخصية "زنوبة" فى قصر الشوق وبعيدا عن دلعها ورقصها كانت نموذجا للعالمة الجبارة لاهم لها سوى المال، وأيضا انعكاسا لحالة مجتمع مفكك تصنع قراراته الراقصات.. ويسيطر عليه الاستعمار ووجب عليه أن يثور.
قصر الشوق
ورغم أنف المتطرفين والمزايدين ستظل حميدة" فى "زقاق المدق، و"نور" فى "اللص والكلاب"، كريمة فى "الطريق" و"زهرة" فى "ميرامار"، سناء جميل "نفيسة" فى فيلم "بداية ونهاية"، سعاد حسنى إحسان فى القاهرة 30، جملات زايد الست أمينة فى الثلاثية، نادية لطفى ريرى فى السمان والخريف، جليلة فى حديث الصباح والمساء هى شخصيات من لحم ودم تعكس واقعا سياسيا واجتماعيا وتحمل فلسفتها الخاصة وتعرى مجتمع أدمن الزيف والمتاجرة.
وإذا كان المجلس هو المنوط بوضع التشريعات وتوجد به مثل هذه العقليات يكون التصرف فى ظنى إقالة النائب أو احرقوا روايات نجيب محفوظ ليرتاح سيادته، ولا يصبح لدينا شيئا.
زقاق المدق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة