أكتب ثانية بدافع من الخوف والفزع، فكلما تابعت ما يدور فى ملف التشكيك فى الإسلام، أدركت أننا نغرق فى معارك فقهية داخلية فارغة وننصرف عن المعركة الأهم، وهى حماية أصل الاعتقاد الذى قد يهدده خطر جامح نتيجة المحتوى المعادى للإسلام الذى يتعرض له أبناؤنا على شبكة الإنترنت.
الشبهات لا تنتهى، والأصول التى تستند إليها هذه الشبهات متعددة، وبعضها يستند إلى مراجع عربية كتبها مؤرخون أو باحثون مسلمون، كان آخرها ما أشرت إليه أمس فى قضية عروبة القدس، وظهور مثقفين يشككون فى عروبة القدس ومكانتها فى الإسلام، ثم ينتقلون من التشكيك فى القدس إلى التشكيك فى واقعتى الإسراء والمعراج، فهناك من ينكر المعراج من الأساس، وهناك من يشكك فى أن واقعة الإسراء قد جرت عند المسجد الأقصى الذى نعرفه الآن فى القدس المحتلة، ويدعى أن المسجد الأقصى كان يقصد به مسجد آخر فى مكان بين مكة المكرمة ومدينة الطائف فى زمن النبوة، والمخيف هنا أن عددا من المؤرخين العرب تعرضوا لهذه الروايات فى مراجع مختلفة، والمخيف أكثر أن عددا من المثقفين العرب صاروا يرددونها الآن على أنها حقائق تاريخية لا تقبل المناقشة.
خذ مثلا الموسوعة التاريخية الكاملة لمؤرخ عراقى الأصل «جواد على»، إذ يتم الاستناد على هذا المرجع فى تقديم روايات تاريخية مغايرة لما انعقد عليه إجماع الأمة فى رحلة الإسراء، ثم يتم الاستناد على هذه الموسوعة أيضا عن عدد «الكعبات» التى انتشرت فى جزيرة العرب قبل الإسلام، وكيف كانت هناك كعبات أشهر من كعبة مكة المكرمة، ومن قصص الكعبات إلى التشكيك فيما إذا كان نبى الله إبراهيم قد بنى الكعبة بنفسه أم لا، ويقدم بعض المراجع قصصا تاريخية وجغرافية ومخطوطات مزعومة تحاول نفى وجود سيدنا إبراهيم، عليه السلام، فى هذه البقعة من الأساس، الأمر الذى يفجر شكوك الشباب حديثى القراءة أصحاب الفضول المعرفى، فى النص القرآنى نفسه، بلا أهلية للفهم أو للتدقيق فيما تردده هذه المراجع.
هذه الكتب التاريخية المكتوبة بأقلام عربية يتم استخدامها فى إنتاج محتوى تليفزيونى يشكك فى أصل بناء الكعبة، وفى عدد الكعبات، وفى حرب أصحاب الفيل، ثم فى الإسراء والمعراج، ثم إلى القدس، ثم إلى أساس الدين نفسه، فإذا كان كل ما يعرفه الشباب منذ ولادتهم يتم هدمه عبر محتوى كثيف على شبكات التواصل أو فى الـ«يوتيوب»، دون رد أو تدقيق تاريخى، فالنتيجة هى كارثة بكل المعانى.
وتنضم إلى موسوعة جواد على كتب أخرى يستند عليها المشككون فى إثارة شبهات للشباب عبر اجتزاء فقرات غير مترابطة من مراجع أخرى وتحويلها إلى إفيهات بالفيديو، مثل كتب خليل عبدالكريم ككتاب «فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين»، أو كتاب «النص المؤسس ومجتمعه»، أو «شدو الربابة بأحوال الصحابة»، وكلها كتب ربما كتبت بنوايا حسنة لكنها تقدم مقتطفات تاريخية يمكن اصطيادها لتوسيع دائرة الشك فى البيئة التى انطلقت منها وحدانية الله تعالى، ونشأ فيها الإسلام فى أرض الجزيرة العربية.
لم تعد هذه الكتب بعيدة عن التناول بعد أن تلقفها مجموعة من المثقفين، أو القنوات الموجهة ضد الإسلام فى الخارج، والتى تحولها إلى مادة تليفزيونية بالشرح والتحليل والتعقيب والسخرية، مما يترك كثيرا من الشباب فى دائرة الشك المؤلمة فى الدين والهوية وأساس الاعتقاد.
نحن منشغلون فقط بقضايا فقهية كالرد على داعش، وحكم قتل المرتد، وفوائد البنوك، وقضايا الحيض والنفاس، وحجاب المرأة، ومعركة المنتقبات فى الجامعات، بينما أساس الاعتقاد يتعرض لهجمة غير مسبوقة ممولة بعنف للتشكيك فى الوحدانية، وضرب الهوية الإسلامية، وتحقير المقدسات.
هل هى حروب الجيل الرابع تنقض على الإسلام كدين، والإسلام كهوية؟
وهل يجوز أن تكون مجتمعاتنا العلمية منشغلة بما إذا كان التدخين من مبطلات الصوم أم لا، فى حين أن هناك من يزرع فى عقول الشباب أن إبراهيم النبى لم يدخل الجزيرة العربية أصلا، وأن القرامطة هدموا الكعبة وسرقوا الحجر الأسود، فلماذا لم يرسل الله عليهم طيرا أبابيل كما فعل مع أصحاب الفيل، وأن مسرى النبى كان بين مكة والطائف، وأن القدس هى ملك لليهود ولم تكن لها مكانة فى تاريخنا الإسلامى إلا بعد عبد الملك بن مروان؟
كل هذه الأكاذيب يجدون فى المراجع فقرات مجتزأة لإثباتها، ويتلقف الشباب التائه هذه الأفكار ليكفروا بدينهم وهويتهم، ويسلموا لأعدائنا ما تبقى لنا من قيمة ومن أرض ومن كرامة.
الأمة نائمة بين أحضان الحيض والنفاس، والعقيدة نفسها فى خضم حرب لا يذود عنها أحد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة