هل تصدق يا أخى أن أكثر ما نعرفه عن تاريخنا العربى والإسلامى يعود إلى مصادر غير عربية وغير إسلامية، من مجموعات المستشرقين التى وفدت على الشرق الأوسط فى سنوات الضعف والانكسار، ثم فى سنوات الاستعمار الطويلة التى اجتاحت هذه الأمة لعقود ممتدة، وهل تصدق يا أخى أن كثيرا من المؤرخين العرب اعتمدوا على مصادر غير عربية من كتابات هؤلاء المستشرقين، ومن انطباعاتهم وآرائهم الخاصة على هذا التاريخ، فإذا اختلف اثنان من المؤرخين تحاكما إلى هؤلاء المستشرقين وأحكامهم خاضعين لوهم ساذج بأن هؤلاء المستشرقين لا ينطقون عن الهوى، وأن أحكامهم لا تخضع لتأثيرات طائفية أو عنصرية أو مذهبية.
والنتيجة، أن كل الارتباكات التى نعيشها فى تقييم الأحداث التاريخية تعود إلى روايات سنوات الاستشراق، وكل الشكوك التى تعيشها الأمة فى تقييم رحلتها التاريخية منذ اجتماع السقيفة لاختيار خليفة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وحتى اليوم هى من صنيعة حملات التشكيك والفتن التى زرعتها مجموعات الاستشراق فى بنيان التاريخ العربى والإسلامى.
تأثيرات أفكار المستشرقين تظهر جليا فى ملف القدس والمسجد الأقصى وعقدة الحقوق التاريخية فى المدينة المقدسة، فهؤلاء المثقفون العرب الذين ينطقون اليوم بالجهل الصريح والتشكيك فى عروبة المدينة يتصورون ظلما أنهم يرتكزون على حقائق تاريخية، فى حين أن ما عرفوه من هذا التاريخ إنما كتبته عقول وضمائر غير عربية، وحررته عن هوى فى القلب أو عن مصلحة فى السياسة، أو عن غاية تخدم استراتيجيات الاستعمار.
حتى المؤرخ جواد على نفسه، الذى تستند إلى موسوعته بعض الأصوات المشككة فى جذور الإسلام ووقائع تاريخ بلدان الخلافة، هو بنفسه شكك فى الأهواء التى تحكم كتابات المستشرقين، ففى كتابه «تاريخ العرب فى الإسلام» يقول جواد على النص التالى حرفيا:
«معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين أو من المتخرجين فى كليات اللاهوت وأنهم إن تطرقوا إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام وحاولوا جهد إمكانهم ردها إلى أصل نصرانى، وطائفة المستشرقين من اليهود خاصة بعد تأسيس إسرائيل وتحكم الصهيونية فى غالبيتهم يجهدون أنفسهم لرد كل ما هو إسلامى وعربى إلى أصل يهودى، وكلتا الطائفتين فى هذا الباب تتبع سلطان العواطف والأهواء».
هذه كلمات جواد على نفسه، وهو مؤرخ واسع المعرفة طبعا ومثير للجدل بكل تأكيد، وإذا كان هذا هو تقييمه للمستشرقين، فإن علينا أن نقف لمراجعة ما تتناقله الكتب التاريخية استنادا إلى عصر الاستشراق، وعلينا أيضا أن نحقق ما رواه لنا هؤلاء المستشرقون وتعاملنا معه نحن على محمل الجد، وتحت زعم الموضوعية التاريخية، أو تحت ظنون أنهم باحثون محايدون لا ناقة لهم ولا جمل فى كتابة التاريخ، هذا كذب مطلق، لأن نتيجته ماثلة الآن فى حملات التشكيك الممنهجة فى عروبة القدس وإسلاميتها، وهذا كذب مطلق، لأننا صرنا أمام صنف من المثقفين العرب لا يرى فى تاريخنا سوى أنه باطل مستمر، ودماء لا تتوقف، وصراعات لا تنتهى.
وإذا كان هناك من بيننا من يناضل لمراجعة أحاديث النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، نفسه خوفا من الإسرائيليات والأقوال المدسوسة على النبى حتى فى صحيحى البخارى ومسلم، فهل من باب أولى أن تكون الإسرائيليات قد دخلت أيضا على تاريخنا الإسلامى إلى الحد الذى تعرض فيها العقل العربى للتشويه والتشكيك والتضليل، وشهدت فيه الروايات التاريخية قصصا مختلقة ترد كل ما هو عربى لأصل يهودى، وتحاصر أهل العروبة والإسلام فى ركن مظلم من فقدان الثقة فى النفس، وفقدان الاعتزاز بالهوية.
والله أعلى وأعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة