دماء باردة سكنت شراين لا يعرف أصحابها إلا التحريض، ودماء تسيل بلا انقطاع لتضرب أسمى معانى البطولة والفداء لحماية الأرض والعرض.. ودماء أخرى تغلى فى العروق، مترقبة فى صمت ثقيل لحظة قصاص عادل من كل من خان، ومن وفّر ملاذا ومنبرا للمحرضين، وقدم سلاحا لقاتل، هكذا تحول الخلاف بين مصر وإمارة قطر، من ساحات السياسة إلى ميادين الثأر.
ما بين القاهرة والدوحة ليس اختلافا فى وجهات النظر بين دولتين وإدارتى حكم، وليس نزاعا على حدود أو منافسة فى ملعب سياسى وتسابق على دور أكبر وأكثر تأثيرا، وليس قاصرا على تدخل دولة فى شؤون غيرها، وإنما هو فى جوهره قائمة ثأر امتدت منذ اندلاع ثورة 30 يونيو 2013 وحتى كتابة هذه السطور، قوامها يقترب من حاجز الـ300 شهيد، وآلاف المصابين من أبناء الشعب المصرى ورجال القوات المسلحة والشرطة المصرية، أريقت دماؤهم بدعم وتمويل ومشاركة ومباركة قطرية مباشرة.
بداية الحقد القطرى.. ضآلة الدوحة وسواد قلب حمد وابنه تميم
قبل أكثر من 7 سنوات، أى قبل أن تزور "رياح الربيع" عواصم العرب، كانت قطر تسقط فى دوامات الحقد الذى أورثه حمد بن خليفة للابنه الشاب "تميم"، الصاعد حديثا للحكم بدعم من والدته، مساحة واسعة من الحقد تجاه العرب صنعها "حمد" ونقلها لـ"تميم"، بعدما حاولت الإمارة دون جدوى أن تجد لنفسها موطئ قدم على الساحتين الإقليمية والدولية، ولكن دائما ما كانت حسابات الجغرافيا وموازين القوى تفرض شروطها، وتترك قطر فى مربع الدولة الضئيلة.
بين محور للاعتدال قادته القاهرة والرياض، وآخر للمانعة تصدرته سوريا والميليشيات التى رفعت آنذاك رايات المقاومة، لكسب تعاطف الملايين من المحيط إلى الخليج، والفوز بدعم وتمويل الدول الباحثة عن دور، إو المنحازة لإثارة المشهد العربى وتغذية سخونته، وسط قوى إقليمية صاعدة قادتها الإمارات بثورة ضخمة فى شبكة متداخلة ولا تنقطع من الاقتصاد والاستثمارات داخل وخارج المنطقة العربية، كانت قطر - تلك البقعة الصغيرة جغرافيا والضئيلة سياسيا - أقل كثيرا من أن تُرى بالعين المجردة، لضآلة حجمها وغياب أثرها الفاعل بأى شكل حقيقى عن المنطقة وملفاتها المهمة.
الإمارة الصغيرة تعادى مصر والسعودية طمعا فى لقب يدارى تفاهتها
عرف الحقد طريقه إلى شرايين الأمير الشاب تميم بن حمد، والأمير الوالد حمد بن خليفة.. كان الولع بالمسميات والتصنيفات والألقاب أكبر كثيرا من أن يحتويه قلب مريض، لم يرق صاحبه لمرتبة الوقوف ضمن صفوف "محور الاعتدال"، ولم يمتلك الجرأة الكافية للتحرك باستقلالية وثبات للانضمام لـ"محور الممانعة".
كان لقب "خادم الحرمين الشريفين" مزعجا لمن لا يملكون إلا آبار نفط وأرصدة لا متناهية فى البنوك، وكان مسمى "الشقيقة الكبرى" الذى تحوزه مصر بالجغرافيا والتاريخ والظهير الحضارى الواسع، والأثر الأكبر إقليميا، مزعجا دوما لكل صغير لا يملك جذورا ضاربة فى عمق التاريخ، وليس أصغر على الخارطة العربية من قطر، ولا أكبر من حقدها على الجميع.
"الجزيرة".. أداة حمد بن خليفه وابنه المشبوهة لمعاداة مصر والعرب
بأعين سكنتها الكراهية، يطل "حمد" وابنه "تميم" عبر شاشات شبكته الإعلامية المشبوهة "الجزيرة"، وقنواتها المتعددة التى تبث سموما لا تنقطع فى عقل المواطن العربى، يدرك الأمير الصغير أن الأخيرة تمنحه ما هو أكبر كثيرا من حدود دويلته الضئيلة، التى لا تكفى لصيانة أمن أميرها ما لم يحسن أدب الحوار وضوابط الجوار، تمنحه إلى جانب عوائد النفط الضخمة منفذا يتسلل من خلاله، عبر الرشاوى والتحريض، لكيانات ورموز سياسية آثرت أن تبيع مصالح بلدانها لتمهد طريق المغرضين والمتربصين للتحرك فى عواصم العرب الكبرى، عبر تأجيج ما عرف بـ"الربيع العربى"، أو استغلاله وتوظيفه لخدمة أجندة مسبقة الإعداد.
بوتيرة متسارعة كانت الجزيرة حاضرة "من قلب الحدث"، لتشعل الأزمات تلو الأزمات، منذ أقدم الشاب التونسى محمد بوعزيزى على حرق نفسه فى بلدة "سيدى بوزيد"، لتأخذ فضائية الدوحة المشبوهة على عاتقها مهمة تصدير سيناريوهات الفوضى لباقى دول المنطقة.. ومع حلول الثامن والعشرين من يناير 2011، وفى أعقاب جريمة اقتحام السجون داخل مصر، كان قادة جماعة الإخوان الإرهابية الهاربة ضيوفا دائمين على شاشة القناة القطرية، بدأ الأمر من لحظة اقتحام السجون، حينما هاتفت القناة المشبوهة الرئيس المعزول محمد مرسى، وقتما كان سجينا هاربا، عبر هاتف "الثريا" من صحراء وادى النطرون، بعد دقائق من هروبه من السجن، ليتم مبكرا إعدادهم وتأهيلهم للاستيلاء على السلطة فى نظام ما بعد حسنى مبارك.
الدوحة تتلقف تظاهرات 25 يناير وتبدأ خطتها للنيل من القاهرة
بتمويلات مفتوحة، وعبر استوديوهات الجزيرة مباشر مصر، والجزيرة الأم، حرك "تميم بن حمد" آلة الخراب صوب القاهرة، ليقدم دعما ضخما وملفتا، مهد الطريق أمام قيادات جماعة الإخوان للظهور، وسوّقهم للرأى العام فى صورة الأكثر تعرضا للظلم، والكيان الأكثر تنظيما وحشدا، والأكثر قدرة على قيادة مصر فى ظل ما تشهده من اضطرابات عقب ثورة 25 يناير، لتجنى الجماعة الثمار وحدها، بالفوز بأغلبية كاسحة فى برلمان ما بعد الثورة، وتستطيع عبر مرشحها محمد مرسى السيطرة على باقى مفاصل الدولة، وإدخال مكتب الإرشاد إلى مقر رئاسة جمهورية مصر العربية، عبر وجه المعزول وأموال قطر ونافذة الجزيرة الإعلامية.
من قلب ميدان التحرير، بثت "الجزيرة" مشهد القسم الصورى الذى أداه محمد مرسى رئيسا للبلاد، تابع "تميم" آلته الإعلامية الموجهة وهى تنقل الحدث، مدركا أن امتلاك الجماعة الإرهابية لمقعد الرئيس لا يكفى لتنفيذ مؤامرة هدم مصر، ما لم تحكم قبضتها على القوات المسلحة المصرية، التى كان المشير حسين طنطاوى على رأس هرم القيادة فيها حتى تلك اللحظة، حاولت الدوحة عبر عملائها فى الجماعة النيل مرارا من الجيش المصرى، ودفعت نظام حكم الإخوان للاستعانة بوزير دفاع بـ"نكهة الثورة" ـ كما لقبه أنصار الجماعة آنذاك ـ هو الفريق أول عبد الفتاح السيسى، إلا أن الحسابات أثبتت بعد قليل بطلان التقديرات.
من قلب المخابرات الحربية، إلى قيادة القوات المسلحة المصرية، كان "السيسى" مدركا لحجم ما يحاك من مؤامرات ضد مصر، بأعين يسكنها القلق أدى وزير الدفاع الجديد القسم أمام مندوب مكتب الإرشاد فى رئاسة الجمهورية، ليتحمل مسؤولية كبرى وينحاز بعد أقل من عام لملايين عديدة آثرت النزول للشوارع والميادين، لتدوين شهادة وفاة تنظيم الإخوان، والمطالبة بالرحيل الفورى لوجوهه من السلطة، والمحاكمة العاجلة لقادته ورموزه المتورطين فى أعمال عدائية ضد الوطن وقواه السياسية والشعبية، وفى مقدمتهم المعزول محمد مرسى.
ثورة 30 يونيو.. بداية كشف "الجزيرة" وتعرية قطر
كان مشهد الملايين المحتشدة فى ميدان التحرير، رافعة لافتات "ارحل" أو "يسقط حكم المرشد" فى وجه الإخوان، أكبر من أن تستوعبه دويلة قطر، محدودة التاريخ وضئيلة الحجم والأثر، ولكنها أدركت أنها فى طريقها لخسارة رئيس بدرجة عميل.
حركت الدوحة آلتها الإعلامية للنيل من ثورة المصريين فى 30 يونيو والتحريض ضدها، ومع نفاد صبر القوات المسلحة، واستجابتها لنداء المصريين وتطلعاتهم، وتحركها لعزل "مرسى"، ما كان من فضائية "الجزيرة" المشبوهة سوى تسخير كل ما تملكه من إمكانيات فنية وبشرية، للنيل من مصر وجيشها، عقابا على انتصارهم للوطن وإجهاض المؤامرة القطرية.
الجزيرة تبدأ خطة إشعال مصر من "رابعة" والنهضة
بتحريض لا ينقطع، نحت "الجزيرة" شعارها المراوغ "الرأى والرأى الآخر" جانبا، وسخّرت منصاتها المختلفة لبث فعاليات اعتصامى جماعة الإخوان فى رابعة العدوية وميدان نهضة مصر، فى استفزاز صريح ووقح لمشاعر المصريين الغاضبة، التى اختارت بإرادة حرة عزل الإخوان من السلطة.. وأمام الصمود اللافت لمن احتشدوا فى ميادين الحرية، ما كان من الدوحة إلا نقل المعركة إلى ميادين الدعوة الصريحة للقتل والتصفية الجسدية لقادة الجيش المصرى، ودفع الدولة المصرية إلى تخوم الحرب الأهلية.
من مقطع "أنا بنذرك يا سيسى.. هنفجر مصر" الشهير، مرورا بتحريض قادة جماعة الإخوان الإرهابية، ومنهم صفوت حجازى على القتل، وصولا إلى الاعتراف الذى أدلى به محمد البلتاجى عبر شاشة الجزيرة، بوقوف الجماعة وراء العمليات الإرهابية التى اندلعت فى سيناء فور عزل مرسى، وأنه يمكنهم إيقافه فورا إذا أعيد مرسى للقصر، قدمت قطر عبر فضائيتها، وما زالت حتى الآن، المنبر الأول للتحريض على القتل والخراب والتدمير، لينقل تميم بن حمد خلافه مع مصر من ساحات السياسة إلى ميادين الثأر والدماء.
جرائم قطر فى حق مصر.. دم 228 شهيدا مصريا يلطخ كفوف الدوحة
شاركت قطر وتورطت عبر تحريضها فى سقوط 25 شهيدا فى مذبحة رفح الثانية، فى 19 أغسطس 2013، كما شاركت وتورطت عبر سموم قناة الجزيرة فى سقوط 16 شهيدا فى تفجير مديرية أمن الدقهلية فى 25 ديسمبر من العام نفسه، واستشهاد 4 آخرين فى تفجير مديرية أمن القاهرة قبل يوم من ذكرى الثورة عام 2014.
يحمل تميم بن حمد فى كفيه دماء 110 شهداء من رجال الكتيبة 101 بالعريش، بعدما تصدوا لعناصر تنظيم "داعش" الإرهابى وجماعة الإخوان، المدعومين من الدوحة يوم 29 يناير 2015، ويحمل أمير قطر أيضا المسؤولية عن دماء 29 شهيدا سقطوا بلا ذنب فى تفجير الكنيسة البطرسية فى 11 ديسمبر 2016، ودماء 44 آخرين سقطوا فى تفجيرات كنيستى طنطا والإسكندرية فى التاسع من أبريل 2017.
نقلت قطر باختيارها الحر، خلافها مع مصر من ميادين السياسة إلى ميادين الدماء والثأر، لتؤكد أن ما بين الدوحة والقاهرة دما أكبر كثيرا من قائمة المطالب العربية المصحوبة بمهلة للتنفيذ، وأكبر كثيرا من إغلاق حدود مباشرة أو فرض حظر على الطيران، أو إعلان مقاطعة دبلوماسية شاملة، نقلت قطر باختيارها الحر الخلاف مع شعب مصر إلى ما هو أبعد كثيرا من خطوط العودة، وما هو أقصى من كل مشاعر الغفران، ولم يعد إلا دماء الشهداء، وقانون الله والوطن بالقصاص والثأر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة