حازم حسين

وزارة التعليم فى مهمة مفتوحة لإنقاذ المستقبل

الأحد، 02 ديسمبر 2018 08:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أكثر من 20 مليون طالب يتوزّعون على قرابة 60 ألف مدرسة فى مراحل التعليم الأساسى، وخلال السنوات الاثنتى عشرة المقبلة، من المُنتظر أن تستقبل المدارس 20 مليونًا آخرين تقريبًا. وبين الرقمين وفارق السنوات، نقف الآن على تخوم مرحلة مفصليّة فى مسار التعليم، لا تستهدف فقط إنقاذ 40 مليونًا حتى 2030، وإنما تستهدف إنقاذ التعليم المصرى برُمّته، وإنقاذ المستقبل كلّه بطبيعة الحال.
 
لا يُمكن بأيّة حال المراوغة والالتفاف على حقيقة أن نظامنا التعليمى بوضعيته الحالية نظام سيّئ، ومُخرجاته ليست النموذج الأمثل أو القياسى الذى يُمكننا التعويل عليه فى بناء جيل جديد، يُواكب مُتغيّرات العالم، ويُحقّق تطلّعات التنمية والتحديث. الميراث الذى تحمله الوزارة جرّاء سنوات طويلة من الارتجال والعشوائية، بات يُثقل كاهلها، وكاهل العملية التربوية بكاملها، ولا حلّ إلا التخلّص من المنظومة القديمة كاملة، لصالح منظومة جديدة، أكثر عصرية وتماسكًا، دون خلخلة الأعمدة التى تحمل البناء الآن، لحين تثبيت الأعمدة الجديدة، أى أن الأمر يحتاج رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وفى الوقت نفسه خطة تكتيكية تُوازن بين المراحل ومُتطلّباتها، وبالفعل تتحرّك الوزارة حاليًا فى هذا الإطار.
 
ما قاله الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى، فى لقاء استمر أكثر من ثلاث ساعات خلال استقباله مجلسى تحرير اليوم السابع وصوت الأمة قبل عدّة أيام، يُنبئ عن أمور تدعو للتفاؤل، ويحمل كثيرًا من التفاصيل، التى تصنع فى تجاورها وتتابعها، صورة كاملة وواضحة المعالم، لمنظومة تعليمية تنتمى للمستقبل ببنيتها وروحها وخُططها ورهاناتها بعيدة المدى، وفى الوقت نفسه تُراعى طبيعة السياق المصرى واحتياجاته، العاجلة والمرحلية، وآثار سنوات التخبّط التى شهدتها وزارة التعليم وأجنحتها. هكذا يُفكّر الرجل وفريقه، حسبما عرضوا وشرحوا وناقشوا معنا، وبفضل هذا التفكير تملك وزارة التعليم الآن رؤية للسنوات الاثنتى عشرة المقبلة، تنسجم مع استراتيجية الدولة «رؤية مصر 2030»، وتُرسى دعائم الانطلاق بالمنظومة التعليمية إلى آفاق أبعد من هذا المدى الزمنى، وأكثر استقرارًا واستدامة فى آليات عملها وضمان جودة مُخرجاتها بالشكل الذى يضمن لنا الإفلات من قبضة المنظومة التعليمية القديمة، بما خلّفته من آثار فادحة على الوعى العام، وعلى قدرات المتعلّمين ومهاراتهم، حتى انعكست هذه الآثار بشكل ضاغط وقاسٍ على الاقتصاد والثقافة والسياسة وسوق العمل.
 
الجيد فى النظام الجديد أنه لم يهبط على المناخ التعليمى بـ«براشوت»، متجاهلاً الميراث القديم وآثاره، وساعيًا لفرض رؤية واحدة، عاجلة وآنية، على المجتمع والفضاء التعليمى والمعلمين والطلاب وأولياء الأمور، وإنما راعى مُخطّطوه أهمية توفير حزمة متكاملة من الآليات والإجراءات التى تُؤسس لنظام جديد، وتعمل على إصلاح اختلالات النظام القديم، وفى الوقت نفسه تبنى جسرًا عريضًا وصلبًا بين النظامين، وفق هذه الفلسفة انقسمت خطة العمل إلى محورين أساسيين: الأول يتمثل فى إصلاح وترميم النظام القديم، لتحسين قدرات ومهارات الطلاب الذين قطعوا شوطًا طويلاً فى التعليم بوضعه الحالى، دون صدمته بشكل قاسٍ يفوق استيعابهم، أو تركهم نهبًا كاملاً للمنظومة القديمة باختلالاتها، لهذا عملت الخطة على تحسين المناهج وآليات التدريس فى إطار متطور، لكنه غير مقطوع الصلة بما تعلموه واعتادوا عليه، مع تطوير آليات التقويم والامتحان لتُركز بشكل أكبر على المعارف والمهارات والخبرات العملية، متجاوزة مسألة الحفظ والتلقين وسباق تحصيل الدرجات، أما المحور الثانى فتمثّل فى بناء وهندسة نظام تعليمى جديد، يستند إلى تعظيم دور المعرفة والمهارات المكتسبة من خلال النشاط والممارسة العملية على حساب المناهج التلقينية وطرق الاستظهار القديمة، ويبدأ هذا المحور بالوافدين الجدد على المنظومة التعليمية فى العام الجارى (رياض أطفال 1 – رياض أطفال 2 – الصف الأول الابتدائى) على أن يتواصل التحاق السنوات الدراسية بالنظام الجديد لتكتمل الدائرة فى العام 2027 بدخول النظام الجديد للمرحلة الثانوية، مع وصول تلاميذ الصف الأول الابتدائى فى 2018/ 2019 للصف الأول الثانوى.
 
إذا تجاوزنا مسألة الهندسة العامة للنظام الجديد، وتدرّج تطبيقه زمنيًّا، فعلى صعيد التنفيذ العملى تتضمّن العملية التربوية والتعليمية فى صيغتها المُبتكَرة مساحة من الدمج الفعّال بين المهارات والأنشطة ذات الطبيعة الاجتماعية، التى يُمارسها الطلاب مع مُعلّميهم داخل الفصول، والمعارف والمعلومات المُكتسَبة من خلال برامج وتطبيقات التعلّم النشط، وتقنيات الاتصال والتكنولوجيا التى يُتيحها النظام الجديد للطلاب داخل المدرسة وخارجها. وبحسب الخطة فإن مدارس المنظومة الجديدة ستجمعها دائرة اتصال مُتطوِّرة تربطها ببعضها، وبالوزارة، مع توفير «خوادم» داخلية تُتيح للطلاب النفاذ إلى المناهج ومُحتوى بنك المعرفة، وتدعيم كل فصل بشاشة عرض ضخمة لاستعراض الوسائط المُصوَّرة، وشرح الدروس وممارسة الأنشطة المختلفة، ويتكامل كل هذا مع أجهزة الحواسب اللوحية «تابلت» التى توفِّرها الوزارة للطلاب بشكل مجانى، وهو ما يُتيح لهم مُتابعة الدروس ومذاكرتها وممارسة الأنشطة على أجهزتهم الشخصية، وفى الوقت نفسه يُؤدِّون الامتحان من خلالها بشكل إلكترونى لا يتدخّل فيه العامل البشرى، وهو ما يقطع الطريق نهائيًّا وللأبد على ظاهرة الغشّ وتسريب الامتحانات، والأهم أن هذه الأجهزة ستُتيح للوزارة التواصل المُباشر والفعّال مع الطلاب، بشكل يخلق مساحة حقيقية من التفاعل العميق والمُتّصل بين ملايين الطلاب والمُعلّمين، وكل المستويات القيادية والتنفيذية فى الوزارة وإداراتها المختلفة.
 
النظر فى ملف نظام التعليم الجديد، وما يتضمّنه من إيجابيات، ويُبشِّر به من وعود وعطايا، لا يُمكن أن ينفصل عن النظر لشخص الدكتور طارق شوقى وسيرته الذاتية، ليس فقط لأنه أكاديمى مُتخصِّص فى الهندسة الميكانيكية، بما يعنيه هذا من مزاوجة بين المعرفة التربوية والتعليمية، وقدرة على البناء وهندسة الأفكار وتوجيه القوى فى مسارات مُثلى بشكل يُعظّم طاقتها وآثارها، ولا لأنه يحمل درجة الماجستير فى الرياضيات التطبيقية بما يوفّره هذا من قدرة على الاشتباك الجيد مع العلوم والمعارف التى يدرسها الطلاب، وفهم آليات تبسيطها ووضع مناهجها، إلى جانب التفكير المنطقى والتحرّك وفق حلقات أو مراحل مُتتابعة تنبنى كل منها على سابقتها، ولكن لأن الرجل يمتلك خبرات واسعة فى ملف التعليم وتطويره وتحديث أُطر التربية ونقل المعرفة، تشكّلت طوال 13 سنة قضاها فى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو»، بين 1999 و2012، كان خلالها قائدًا ومشرفًا على عدد من المشروعات حول العالم فى مجال توظيف تطبيقات وتكنولوجيا الاتصال فى التعليم والثقافة، وتعظيم دورها فى دعم العملية التعليمية وتعزيز قدرات المُعلّمين والدارسين، وفى هذه المرحلة تولّى التنسيق لعدد من شراكات اليونسكو مع شركات تقنية ومعلوماتية كبرى فى مجال التعليم والمعرفة، وقاد أيضًا مشروعًا عالميًّا أطلقته المنظمة لإعداد معايير قياسية لتدريب المعلمين على توظيف تقنيات الاتصالات والمعلومات فى التدريس، وبعدها ترأس قسم تطبيقات تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فى التعليم بمنظمة اليونسكو بين 2005 و2008.
 
إلى جانب رؤية الوزير، وتفاصيل المشروع، والجوانب اللوجستيّة والفنية والتنظيمية المُتعلقة بنظام التعليم الجديد - والتى شغلت الجانب الأكبر من لقاء الثلاث ساعات- كان أبرز ما فى اللقاء تركيبة فريق العمل المُعاون للوزير، واستناده بدرجة كبيرة إلى فُسيفسائية مُتنوِّعة من ذوى الخبرة والمهارة، بمستويات عُمرية وثقافية مختلفة ومتباينة. وفى الحقيقة يُمكن إيجاز الأمر فى أننا أمام وزارة تعليم جديدة، ليست كما عهدنا من قبل، ولا كما كانت حال الوزارة فى فترات سابقة. خرج الدكتور طارق شوقى من الدولاب البيروقراطى التقليدى بصورة ملحوظة، فتنوّعت كتيبة المُعاونين؛ لتضمّ أكاديميين مُتخصِّصين فى التربية وإعداد المناهج ونُظم التقويم والامتحان، عمل كثيرون منهم فى جامعات ومؤسَّسات دولية، كما تضمّ شبابًا مُتخصِّصين فى علوم الإدارة الحديثة والتخطيط والتسويق، وناشطين فى المجتمع المدنى وقطاع التعليم الفنى داخل مصر وخارجها. وإلى جانب هذه التركيبة الثرية، لم تقل العقول ثراء ولا تنوُّعًا عن هذا. فى الحقيقة شعرت بقدر غير هيِّن من الدهشة والمفاجأة، أولاً بسبب طبيعة الفريق وتكوينه، وثانيًا بسبب المحتوى النوعى الذى طرحه الفريق، والقدرات الفنية والعقلية والمعرفية التى بدت واضحة للغاية فى سياق أحاديثهم وأطروحاتهم.
 
خلال اللقاء الطويل تحدّثت الدكتورة دينا البرعى، مستشار الوزير للتقويم والامتحانات، مُستعرضة الخطوط العريضة وجوانب من التفاصيل الدقيقة للنظام الجديد فى المناهج وعملية التدريس وآليات المتابعة والتقويم والامتحان، وتحدّث الدكتور محمد عمر، نائب الوزير لشؤون المعلم، عن تفاصيل برنامج إعداد وتأهيل المُعلّمين للنظام الجديد، وآليات مُتابعتهم ومنحهم تراخيص الصلاحية، التى تضمن بقاءهم وترقّيهم داخل المنظومة الجديدة، وتناول آلية الإثابة والحوافز التى تفتح الباب لزيادة دخول المُعلّمين الأكفاء والمُلتزمين بضوابط النظام الجديد، وفق فلسفة متطوِّرة وعادلة للموازنة بين المزايا وما يُحقّقه المُعلّمون من جهد وفاعلية فى دفع العملية التربوية بصيغتها الجديدة للأمام. وإلى جانب الصورة المُشرقة التى تجلّت فى حديثى دينا وعمر، كانت مفاجأتى الحقيقية فى الشابة حبيبة عز، مستشار الوزير للتعليم الفنى، وهى فتاة صغيرة لم تتجاوز عشرينيات عُمرها، كانت تعمل فى منظمة مجتمع مدنى ألمانية مهتمة بالتعليم الفنى وتعزيز المهارات التقنية والمعرفية لدى خريجى المدارس الفنية، وفى إطار توجه طارق شوقى لتجديد دماء الوزارة استعان بها مُستشارًا له. والحقيقة أن هذه الشابة صغيرة السنّ كبيرة الوعى تحدّثت بشكل مُتماسك وعميق، مُستعرضة حالة التعليم الفنى ولوجستيّاته، والإمكانات والفرص التى يملكها، والرؤى المرحلية والاستراتيجية لتطويره، وبروتوكولات التعاون مع شركة «سيمنز» والجانب الألمانى؛ لتطوير القطاع وتحسين مُخرجاته، وإطلاق جامعات تكنولوجية لتغيير الصورة الذهنية وتعديل الوضعية الاجتماعية لخريجى التعليم الفنى.
 
على امتداد الحوار لم يعتصم الوزير وفريقه بمدرسة الصورة الوردية و«كله تمام». قال طارق شوقى إن النظام الجديد تجربة ديناميكية خاضعة للتطوير والتقييم والتعديل طوال الوقت، وإنه لا يستنكف أن يُناقشه الناس، وأن ينتقدوا ويُحلّلوا ويتحدّثوا عن السلبيات كما تُعرض الإيجابيات، واعترفت الدكتورة دينا البرعى بأن تسويق نظام التعليم الجديد يحتاج جهدًا أكبر، بالدرجة التى يحتاجون فيها مساندة الإعلام ودعمه فى نقل الصورة للمعنيِّين بها من المُعلّمين والطلاب وأولياء الأمور، وأن على فريق الوزارة العمل بصورة أكثر تكثيفًا لشرح فلسفة النظام الجديد وتفاصيله. وتحدَّث الدكتور محمد عمر عن الصعوبات القائمة فى ملف المُعلّمين، وتعدّد مسارات العمل من جانب الوزارة لإعادة تأهيلهم، وضمان استقرارهم ومصالحهم، وفى الوقت نفسه توفير مناخ مُلائم وداعم لنجاح النظام الجديد، وضامن لاستفادة الدارسين وتجنيبهم آثار القصور الذى قد يعترى أداء بعض المُعلّمين، بسبب احتياجهم وقتًا كبيرًا لاستيعاب النظام والاندماج الكامل والفعّال معه. وتحدّثت حبيبة عز عن الإمكانات المُهدرة فى قطاع التعليم الفنى، وما يتوفّر لدى المدارس من تجهيزات وقدرات فنية ولوجستية، وآثار الصورة الذهنية السيئة عن خريجى التعليم الفنى، والضغوط المجتمعية الواقعة عليهم بسبب الموروث المُتراكم من النظرة المُتدنّية للمدارس الفنية، والبحث عن شهادة جامعية لتحسين الوضعية الاجتماعية.
 
الحصيلة التى خرجنا بها من لقاء الدكتور طارق شوقى وقيادات وزارة التربية والتعليم، أننا إزاء برنامج طموح للغاية، توفَّر له الوقت الكافى للدراسة والبحث والإعداد والتجهيز، ووقفت وراءه كتيبة من الفنيين والأكاديميين، الذين لا تنقصهم الرؤية ولا الخبرة، وفى الوقت ذاته يحظى بدعم مفتوح من الدولة بكل مؤسَّساتها، وهو ما يتجلّى بوضوح فى تعاون كل الوزارات والجهات الرسمية مع التربية والتعليم فى خُططها لإنجاح المشروع القومى الجديد. كل المُؤشِّرات والتفاصيل المُتاحة تُبشّر بالنجاح، وكل العقبات والمشكلات القائمة تدعو لمزيد من العمل والجهد والتحدّى، وبين الأمرين لا بديل عن تطوير التعليم المصرى، إذا كنّا نريد بناء واقع كفء يتدارك الميراث القاسى وضغوط الماضى الطويل، وتخطيط مستقبل يُلبّى التطلُّعات ويؤسِّس لدولة جديدة عمادها المعرفة والمهارة ومواكبة العصر، والآن تقطع وزارة التعليم خطواتها الأولى فى هذا المسار، وتخوض مهمة مفتوحة لاستعادة الواقع وإنقاذ المستقبل، وفى هذه المرحلة المفصلية أعتقد أنه يتعيَّن علينا جميعًا أن نُنحّى رؤانا الشخصية ومخاوفنا ضيقة الأفق، ونُشمّر عن سواعدنا لدعم هذه الرؤية الطموح، والتكاتف لإنجاح أهم مشروعاتنا القومية على الإطلاق.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة