أدعوك أن تنسى قليلا صورة أمريكا الكلاسيكية النمطية فى الخيال السياسى العربى، هذا الخيال الذى ينظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة «إمبريالية استعمارية غاشمة منكرة للحقوق العربية»، انسَ هذه الصورة خلال قراءة هذه السطور، ثم عد لتفكر فيما تشاء.
كانت الولايات المتحدة رمزاً لحلم نبيل تملؤه الإنسانية والحرية والطموح، كان هذا البلد يمثل قمة إنجاز الحضارة البشرية إذ يفر إليه ملايين المهاجرين الذين يحلمون بحياة كريمة، يحلمون بالحرية والديمقراطية ويتوقون إلى دولة القانون وروح المساواة، يحلمون بالعدل بين الناس، لا مكان هنا لصراعات الأديان أو المذاهب أو الألوان، العالم يقتل بعضه بعضا، فيما المواطن الأمريكى تتفتح أمام عينيه فرص من ذهب ليتألق فى العلم والمعرفة والإبداع والإنجاز والرفاهية.
تلك كانت بعض مفردات هذا الحلم الكبير، وهكذا عاشت أجيال كاملة من شعوب مختلفة تتحرق شوقا لتهاجر إلى هذا الحلم الأمريكى الذى يغازل خيال المعذبين فى الأرض، كانت تلك الصورة التى تشرق بها هذه الأمة الحديثة على الدنيا، وكانت تلك هى الخيالات التى تراود أولئك الذين يعبرون البحر فى قوارب خشبية، أو يعبرونه الآن فى طائرات نفاثة.
كان هذا النموذج الحلم يراود شباب العالم، ومن لم يستطع منهم الهجرة إلى أرض الحلم حاول أن يستنسخ نموذج الحلم على أرض بلاده، فاشتعلت ثورات الحرية والديمقراطية، وناضلت قوى سياسية وأحزاب وبرلمانات من أجل الديمقراطية، وتداول السلطة، واحترام حرية الرأى والاعتقاد، وحركة العمل، وحرية التجارة والإبداع الفردى.
لكن ماذا جرى اليوم؟
لم تعد القيادة الأمريكية الجديدة تؤمن أصلا بهذا الحلم، لا الديمقراطية تمثل وزنا، ولا الرأى والرأى الآخر يشغل بالا، ولا حرية الصحافة أو الاعتقاد يشكلان هاجسا فى عقل السيد الرئيس دونالد ترامب، صارت أمريكا مجرد رجل أبيض شديد الثراء، لا يرى فى العالم إلا فرصة استثماره، وبقرة تحلب المزيد من الأموال على الخزانة العامة فى واشنطن العاصمة.
لا صورة هنا تتعلق بالحلم، الحرب على المهاجرين تشتعل، الحرب على الإعلام فى أقسى قوتها، التحالفات السياسية فى الداخل تتآمر على الأديان الأخرى، بل وعلى المذاهب المسيحية الأخرى نفسها، العدل حبيس الأهواء السياسية، والتدخلات فى القضاء بلغت أعلى مستوياتها، والمخيف هنا أن المواطنين الأمريكيين أنفسهم، حتى الذى كانوا مهاجرين من قبل يبحثون عن الحلم، فقدوا الثقة فى هذا الحلم نفسه، فقدوا الإيمان بالقيم الوحيدة التى جعلت لبلدهم القوى قيمة إنسانية عالمية ونموذجا يحتذى به، لم يعد النموذج والحلم هو ما يهم المواطن الأمريكى، ونجح السيد الرئيس دونالد ترامب أن يبدل الموازين، ويغير الأفكار، ويغازل أحلام أكل العيش، وأكل العيش فقط داخل المجتمع الأمريكى.
لم تعد أمريكا تتكلم عن الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وتداول السلطة واحترام الإبداع الفردى، لم تعد أمريكا تحترم هؤلاء المهاجرين الأفارقة أو العرب أو اللاتين، ولم تعد هذه القضايا الإنسانية الكبرى تشغل الإعلام الأمريكى أو المواطن الأمريكى، إنهم الآن مشغولون بمحاربة حرية التجارة حتى فى بلدان النافتا، بلدان أمريكا الشمالية التى قاسمتها نفس الأحلام، صار المواطن يتكلم عن حرمان المهاجرين من الدواء وفرص العمل حتى يعيش هو هانئا تحت مظلة ترامب الجديدة، لم تعد قضايا حرية الإعلام تشغله من الأساس إذ يرى رأس السلطة وأيقونة الإدارة فى بلاده يحارب الميديا، ويشن حربا علنية على الصحف والقنوات والمذيعين بالقنوات، حتى «أوبرا وينفرى» لم تسلم من هجوم «سيد البيت الأبيض»، أوبرا وينفرى التى عاش العالم ينظر إليها كنموذج «حلم» فى احترام الموهبة الشاملة لهذه المرأة المتفردة، أصبحت الآن جملة ساخرة فى تغريدات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يعد هذا البلد العظيم هو بلد الحلم، بل صار بلدا يقاوم لمحاربة البطالة، ويتصارع على خفض الضرائب، ويفكر كيف يحمى نفسه من استيراد ألواح الطاقة الشمسية من كوريا وتصنيعها محليا، إذ يكره أن ينتصر الكوريون الجنوبيون فى هذا المجال المميز صناعيا، ترامب بدَّل الصور القديمة الجميلة، وأظهر قبحا غير مسبوق فى تاريخ هذا البلد، الحلم.
سقط النموذج، حتى لو قلت أنت «كمثقف عربى» إن هذا النموذج لم يكن حقيقيا فى يوم من الأيام، وإن كل ما فعله ترامب هو إظهار الصورة الحقيقية، وإن الفرق بينه وبين أسلافه أنه رجل لا يزين الكلمات القبيحة ولا يرتدى قناعا فى السياسات القبيحة، حتى لو كان هذا رأيك «سياسيا»، أعود أنا لأتحدث معك كمثقف أيضا لأقول، إن الحلم فى ذاته كان محفزا على الحراك الحضارى، وإن نموذج الحريات فى الرأى والاعتقاد كان ملهما للعالم، حتى لو كان الأمر ليس بهذا النبل بين الساسة فى الولايات المتحدة، ترامب أفسد الحلم نفسه، فى الداخل وفى الخارج.
طلبت منك فى البداية أن تنسى الصورة الكلاسيكية لأمريكا فى الخيال النمطى العربى، طلبت ذلك فقط لتتأمل المشهد بروح إنسانية عالمية، وليس برؤية قومية ضيقة، أمريكا كانت أكبر كثيرا من دورها السياسى والعسكرى فى الصراع العربى الإسرائيلى، والحلم الأمريكى من زاوية التاريخ الإنسانى كان أعظم كثيرا من قياسه على ميزان الكرامة العربية والحقوق العربية، طلبت ذلك لتنظر إلى البعد الحضارى والإنسانى النموذجى فى بناء الأمم، حتى لو كانت أمريكا لم تكن على هذا النحو من قبل، وحتى لو كانت أمريكا قد تغيرت على يد ترامب، لكن يبقى نموذج هذه الأمة «خيالا كان أو واقعا» هو النموذج الذى ينبغى أن تكون عليه صورة أى نظام سياسى وأى دولة مركزية وأى مجتمع متقدم.
حتى الحلم صار حراماً، وصار كابوساً، وسقط كما سقطت كل الأفكار الجميلة فى حياتنا.
الإنسانية من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة