هذه هى المرة الأولى فى تاريخ مصر التى يطرح فيها رأس الدولة قضية العمالة غير المنتظمة فى مجال الحرف والصناعات.. فى النجارة والسباكة والمحارة والنقاشة والبلاط، هؤلاء الذين لم يلتفت إليهم أحد من قبل، ولم تقم لهم أى سلطة سياسية أو حكومة تنفيذية أى وزن قبل هذا التاريخ، هذه هى المرة الأولى، أيضًا، التى يتم التعامل مع هذا الملف بجدية حقيقية، وبأفكار قابلة للتطبيق وليست شعارات رقيقة من تلك التى نسمعها مع كهنة العدالة الاجتماعية، وسدنة حقوق العمال، وكارتلات الخبز أولًا، فهذا القطاع من العمالة الحرفية الموسمية وعمال التراحيل الذين يسعون وراء الرزق يومًا بيوم وساعة بساعة، لم يدخل من قبل على أى من لوائح الأولويات السياسية والحزبية، ولم يشكّل إغراء لتجار الاشتراكية، أو حتى سماسرة الأصوات الانتخابية فى المحافظات.
اسمح لى أن أسرد لك قصة شخصية بسيطة تألمت على ذكراها كثيرًا، وأنا أستمع إلى السيد الرئيس فى حلوله البسيطة والمدهشة لهذا القطاع من العمالة فى مصر، تذكرت أحد أخوالى، رحمهم الله جميعًا، كان يعمل فى قطاع الأحذية، ويصنف فى هذه الحرفة كأحد أمهر الصناع، ولكنه تقاسم مع أبناء مهنته ظروف التلاعب بالقانون لدى بعض المصنّعين فى هذا القطاع، فلم يعرف تأمينًا اجتماعيًا، ولم يتقاضَ أجرًا ثابتًا ولو مرة واحدة فى حياته، كان يقضى ليالى طويلة فى ورشة بائسة فى باب الشعرية بالقاهرة، ويتقاضى أجره «بالجمعة»، أى أسبوعًا بأسبوع، وكان يلفت نظرى وأنا بعدُ طفلًا دون العاشرة من العمر، أن والدىّ، رحمهما الله، ينتظران عيد العمال بفارغ الصبر للحصول على المنحة السنوية، التى كانت آنذاك تغير شكل الحياة فى بيتنا الصغير فى إمبابة، وكنا نقضى ساعات فى انتظار الخطاب الرئاسى أمام التليفزيون لنسمع «الراكور السنوى» حين تعلو أصوات القاعة: «المنحة يا ريس»، فينطق الرئيس بقيمة المنحة، فيتهلل البيت المتواضع فرحًا، ونشعر فجأة بأننا صرنا أغنى أهل الأرض، وكانت المنحة تسمح لنا بأن ندخر لقضاء المصيف فى العصافرة بالإسكندرية، وتفتح لنا بابًا واسعًا لطلب شيكولاتة «كورونا»، التى كنا نأكلها فى المواسم والأعياد، وعند النجاح فى الشهادات الدراسية.
كان خالى، رحمه الله، يشاركنا هذا اليوم، ورغم أنه العامل الوحيد فى البيت، إذ إن والدى كانا موظفين إداريين فى شركة تابعة لوزارة التموين، ولم يكن لخالى نصيب من هذه المنحة، وأتذكر أننى سمعته يغنى مع فواصل القناة الأولى حينها رائعة الشيخ إمام وسيد مكاوى «إحنا الصنايعية إحنا الأمل والغد، فى إيدينا جدية تظهر فى وقت الجد، نشعل فى يوم المعركة ثورة، ونغنى فى يوم السلام موال»، وهى أغنية عظيمة ومبهجة، كان خالى يغنيها، ولكنه لم يكن يرقص معنا بعد «المنحة يا ريس»، وحين سألته: «وإنت يا خالو هتاخد كام فى المنحة دى زى بابا وماما؟»، فأجابنى بخفة دم الصنايعى، الذى يضع توكله على الله، ويطلق النكات ببساطة على حاله وحال الدنيا: «يا حبيبى أنا هاخد قشرة موز أتزحلق عليها على القرعة بتاعتى دى»، كنت أضحك طفلًا، ولكننى حين عرفت ملامح الحياة وجغرافيا العمل فى مصر، أدركت أن خالى كان يضحك حزنًا، ويحتمى بالنكات السريعة وراء الهموم الثقيلة على قلبه.
تذكرت قصة خالى أحمد، رحمه الله، وأنا أستمع لكلمات الرئيس، وللأفكار البسيطة والجادة والمدهشة، التى وجّه المجتمع إليها، الحكومة والقطاع الخاص والجمعيات الأهلية، وتمنيت لو أن خالى أحمد يعيش حتى اليوم، ليعرف أن الحلول ممكنة، لو أن النوايا حسنة، وضمير الحكم خالص لوجه الله.
شكرًا للرئيس..
ومبروك لزملاء خالى أحمد فى كل بقعة فى مصر.. الآن غنّوا من قلوبكم.. إحنا الصنايعية.. إحنا الأمل والغد.
مصر من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة