كلما تعطل راديو جدتى، أو كلما ضاعت موجة إذاعة البرنامج العام، كان الحل السهل والدائم والسريع والوحيد، هو أن تضرب الجدة الراديو على ظهره فتنضبط موجة الإذاعة من جديد، جدتى لم تكن الوحيدة التى استخدمت هذا الحل «المصرى المتفرد» مع الراديو، كان صبى القهوة يضرب التليفزيون على ظهره ليضبط صورة الشاشة فى ماتشات الأهلى والزمالك، وكان صاحب القهوة يضرب الراديو أيضا بقوة ليصفو صوت أغنيات إذاعة الشباب والرياضة، وكانت ناظرة مدرسة طه حسين الابتدائية فى إمبابة تضرب المروحة على ظهرها، وتضرب الراديو الصغير فى مكتبها على ظهره، طبعا بخلاف ضبط سلوك آلاف التلاميذ فى المدرسة بضربهم على ظهورهم فى طابور الصباح أو بعد الفسحة مباشرة.
كيف اخترعنا هذا الحل المدهش بأن نضرب الأجهزة الكهربائية على ظهرها، ونظن بذلك أننا قادرون عليها ومسيطرون على مشكلاتها التكنولوجية؟! كيف صدقنا بكل بساطة أن المشوار للكهربائى غير ضرورى بالمرة لإصلاح أعطال الراديو أو التليفزيون، وتعاملنا مع هذا السلوك التلقائى والساذج بضرب الأجهزة على ظهرها بأنه هو الدواء السريع فى مواجهة الأزمات، والمسكن العاجل من صداع الأسلاك الكهربائية وبؤس موجات الإذاعة وزغللة شاشات التليفزيون؟!
هذا الموروث السلوكى المصرى التاريخى مع الأجهزة الكهربائية صار يشكل ثقافة عامة فى التعامل مع الأجهزة الكهربائية، ثم تحول إلى سلوك عام فى التعامل مع المشكلات عموما فى البلد «اضرب المشكلة على ضهرها كما كانت جدتك تضرب الراديو على ضهره»، كأن العلم لا قيمة له هنا، كأننا نهرب من مشكلة الأسلاك حتى لا نرهق عقولنا فى التفكير، أو نرهق ميزانيتنا بإصلاح الأجهزة المعقدة، ونستسهل ضرب المشكلة على ضهرها، ويرتاح ضميرنا مؤقتا، أو نؤجل الأزمة إلى يوم لاحق، وهكذا إلى الأبد حتى تزداد المشكلات تعقيدا، وينتهى العمر الافتراضى للراديو سريعا، من كثرة الضرب على الظهر، أو تصبح المشكلة الصغيرة أزمة مزمنة لا نستطيع مواجهتها، ولا نقوى على أن نجد لها حلا.
فى تقديرى أن بيننا الآن من لا يستطيع الخروج من هذه الثقافة المخيفة، لقد عاصرنا أنظمة سياسية كانت «تضرب المشكلة على ضهرها» وتظن بهذا المسكن المؤقت أنها نجت بالبلد، أو نجت بنفسها من حساب الناس، كلما واجهتنا عثرة خرج عباقرة السلطة ليستخدموا هذا الحل الساذج والأسطورى، ويضربوا المشكلة على ضهرها، ويتوهم الناس أنهم وصلوا إلى الحل سريعا، فى حين أن المشكلة لم تكن تزداد إلا تعقيدا، والأمراض التى كانت باستطاعتنا السيطرة عليها بالعلم والمعرفة والمواجهة الحقيقية، تحولت إلى أمراض مزمنة خارجة عن السيطرة وعصية على العلاج.
مصر اليوم لا تضرب المشاكل على ضهرها كما كان يفعل صبيان القهوة ببساطة وسطحية، مصر تعرف أن الضرب على الضهر قد يضبط لك موجة الراديو بعض الوقت، لكنك ستخسر الراديو بالكامل بعد أن تشبعه ضربا بلا فائدة.
مواجهة المشاكل بالعلم والتفكير والجهد والمشقة والتضحية، أفضل من ضرب الراديو على ضهره.
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة