هل اختفت الكفاءات فى القطاع الحكومى والوزارات والهيئات وشركات قطاع الأعمال العام؟
لماذا يؤمن الناس اليوم بأن المشروعات التى تسند للقوات المسلحة، إشرافًا أو تنفيذًا، تخرج بكفاءة فى الزمن والجودة والتكلفة عن المشروعات التى تتصدى لها الهيئات المدنية الحكومية أو شركات قطاع الأعمال العام؟
هل القضية فى «السيستم»؟!
فالمواطن المصرى الذى أصبح ضابطًا فى القوات المسلحة، هو زميل المواطن المصرى الذى أصبح موظفًا أو مهندسًا أو طبيبًا فى أى مؤسسة مدنية، وكلاهما يخرج من نفس الوعاء التعليمى، نفس المدارس حتى المرحلة الثانوية، ونفس الحياة ونفس الإعلام ونفس كل المفردات اليومية، فلماذا ينجح ضباط القوات المسلحة فى التنفيذ والجودة، ويتعثر- للأسف- المنتسبون إلى بعض الهيئات المدنية الأخرى؟
هل «السيستم» الحاسم والجاد فى القوات المسلحة غائب عن الشركات والهيئات الأخرى؟! أم أن القضية فى روح الأفراد والكوادر التى تطبق هذا السيستم؟!
هل القضية فى التشريعات المنظمة للعمل والاستثمار فى القطاع الحكومى؟ أم المشكلة فى آليات الرقابة؟ أم فى انتشار الفساد فى بعض الدوائر الصغيرة أو الكبيرة التى تعطل المشروعات لمصالحها الرخيصة؟!
سألت قيادة حكومية بارزة كل هذه الأسئلة دفعة واحدة، وتوقعت إجابات متعددة، لكن الرجل فاجأنى بإجابة أخرى خارجة عن التوقعات.
قال المسؤول الكبير: القضية فى سيكولوجية الموظف العام فى مصر، والأوضاع النفسية داخل دواوين الوزارات والهيئات والشركات.
قلت: نفسية، كيف يمكن أن نختصر مشكلة كبيرة فى مسائل نفسية؟
قال الرجل: نحن لدينا «السيستم»، ولدينا القوانين، ولدينا إرادة سياسية، ولدينا حكومات متعاقبة بمشروعات طموحة، ولدينا مشاعر وطنية جارفة بين ملايين الموظفين فى الدولة، لكن الأوضاع السيكولوجية تؤثر على الأداء العام.
- لاحظ الرجل دهشتى، وراقب حالة توقف الأسئلة ولهفتى لكى أفهم أكثر معنى هذه الكلمات.
فواصل حديثه دون انتظار رد فعلى ليقول:
- هل تعرف حجم القيادات التى تتم الإطاحة بها داخل كل وزارة عند تعيين وزير جديد، أو داخل كل شركة عامة مع تغيير رئيس مجلس الإدارة، وتأثير ذلك على نشأة الشِلل وبدء حرب التعطيل والتوريط بين كل شلة وأخرى؟
- هل تعرف معنى أن تشعر قيادات الوزارات بأن أى وزير جديد سيتعامل معهم على أنهم «رجالة اللى قبله»، وكيف سيؤثر ذلك على روح الفريق فى الدائرة المحيطة بهذا الوزير؟
- هل تعرف أن هناك كفاءات داخل الوزارات «بتخاف تكبر أو تنور أكتر من اللازم» حتى لا يتم «كسر رقبتها»، ومحاسبتها على الطموح فى الترقى، و«أسفنة» كل خطوة لها عند الوزير والقيادات الأعلى فى الوزارة؟
- ثم هل تعرف أن كثيرًا من الوزراء ورؤساء الهيئات والشركات يقضون نصف أوقاتهم تقريبًا فى مواجهة هذه المعارك الإدارية الداخلية، بينما يقسمون النصف الآخر بين العمل والمجاملات ومهام العلاقات العامة للحفاظ على مناصبهم الإدارية؟
- هل تعرف أن بعض الموظفين يصلون ويدعون إلى الله بألا يوقّعوا على ورقة مالية أو يتورطوا فى قيادة مشروع جديد، خوفًا من السجن تارة، ومن الأسفنة والصراعات تارات أخرى؟
- هل تعرف حجم الشِلل الأصغر داخل مجتمع الموظفين فى قطاع الأعمال العام والشركات الحكومية؟
- هل تعرف معنى أن تعمل أى إدارة فى أى مؤسسة عامة، ونصف الإدارة فى شلة تصارع النصف الآخر، وكل شلة محسوبة على الشلل الأكبر فى الدوائر العليا داخل كل مؤسسة؟!
- هل تعرف معنى أن يشعر كل من يعمل باجتهاد أنه يتساوى فى الراتب والأرباح والحوافز مع من لا يعمل مطلقًا؟ وهل تعرف معنى أن تكون موظفًا نشطًا ومجتهدًا لكن مأساتك الكبرى أنك غير محسوب على شلة من الشلل؟!
- هل تعرف أن أكثر من ثلث الموظفين فى الشركات العامة والحكومية والوزارات «تقريبًا» يقضون نصف عمرهم الوظيفى فى قضايا إدارية للطعن فى قرار ترقية زملائهم، أو سعيًا لضم مدد تأمينية، أو صراعًا حول علاوة غير مستحقة، وغيرها من الصراعات الإدارية التى تصل إلى ملايين القضايا فى المحاكم؟
- هل تعرف أن أغلب الموظفين العموميين يعتبرون أن الواسطة أهم عناصر اختصار الوقت فى الترقى، كثير منهم تم تعيينهم بالواسطة أساسًا وقت أن كانت التعيينات فى أنظمة سابقة بلا حساب وبلا قيمة؟
بدا أن الرجل لديه الكثير والمثير ليدعم به وجهة نظره فى التحليل النفسى للموظف العام والشركات الحكومية، لكنه أشفق من الإطالة فاكتفى بهذه الأمثلة، وأوجز رأيه أخيرًا فى بضع كلمات قصيرة، قال:
نحن نحتاج لإعادة هيكلة سيكولوجية لهذا الجيش الهائل من الموظفين، نحتاج إلى رعاية نفسية أولًا، تصحح الصور المغلوطة، وترفع مستوى الوعى، وتضاعف أجواء الشعور بالعدالة، وتقضى على الشلل، وتميز المجتهدين فقط، وتنهى حالة الصراعات الإدارية والنفسنة والأسفنة وحروب التوريط والتوريط المضاد بين الموظفين.
القوانين لا تحقق وحدها هذه النتيجة، و«السيستم» لا يمكن تطبيقه إذا أصاب القلوب عوار أو فساد أو غياب للحلم والإنجاز.
نحن فى حاجة إلى إصلاح نفسى أولًا وقبل أى شىء.
نظرت للرجل بنفس حالة الحيرة، ودون قدرة على الاستيعاب أو لملمة الكلمات وقلت كلمة واحدة:
«ربنا معاكى يا مصر»
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة