رئيس الإفتاء باتحاد أفريقيا: الخلاف بين البشر منحة ربانية ومحنة وابتلاء

قال الدكتور محمد أحمد لوح، رئيس لجنة الإفتاء باتحاد علماء إفريقيا، عميد الكلية الإفريقية للدراسات الإسلامية فى السنغال، إن الخلاف بين البشر فى الآراء والتصورات والأذواق علاوةً على كونه سنة كونية، فهو منحة ربانية من حيث نتوج مادة علمية تثرى البشر بخبرات كثيرة وعلوم متنوعة من منابع العلم والمعرفة، وكذلك محنة، من حيث ابتلاء الله العباد فى كيفية التعامل مع المخالف، وإدارة الخلاف على النحو الأمثل المثمر.

واضاف خلال بحثه بعنوان "إدارة الخلاف الفقهى فى عصر ظهور وتبلور المذاهب الفقهية توثيق وتحليل"، والمقدم بمؤتمر الأمانة العام لدور وهيئات الإفتاء بالعالم،المنعقد اليوم الثلاثاء، تحت عنوان "الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي"، انه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ الصحابةُ الدينَ لمن بَعدَهم كما تلقَّوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاموا بواجبهم حق القيام، فكرسوا أنفسهم للتدريس والإقراء وتبليغ ما سمعوه من النبى، وظهر فيهم الفقهاء والمجتهدون، واعتمدوا فى ذلك على الأحكام الشرعية التى تلقَّوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كبار الصحابة يمارسون الإفتاء والقضاء، ويعلمون الناس الأحكام، وكانوا يرجعون إلى كتاب الله تعالى، إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجدوا فيهما الحكم استغنَوا به عما سواهما، ووقفوا عنده، وإلا بذلوا جهدهم بالنظر فى نصوص الكتاب والسنة واستعملوا القياس وسائر وسائل الاجتهاد، مصطحبين مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية فى استنباط الحكم الشرعى.

وتابع: ثم جاء بعد عصرِ الصحابة عصرُ التابعين، وكان أن نبغ فيهم فقهاء أخذوا العلم عن فقهاء الصحابة، وساروا سيرتهم فى التعامل مع القضايا والنوازل؛ فكانوا يرجعون فيما يُشكل عليهم إلى نصوص الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا بغيتهم فيهما عمِدوا إلى ما ورِثوه من فتاوى الصحابة واجتهاداتهم، وأضافوا هم اجتهاداتهم الخاصة فى المسائل النازلة وَفقًا للمنهج الذى تعلموه من الصحابة فى الاجتهاد والاستنباط.

واستطرد، فظهر فى هذه الأثناء اتجاهان قويان للاجتهاد الفقهى، تمثلا فى مدرسة الحديث فى الحجاز، ومدرسة الرأى فى العراق، وتتلمذ على أعلام هاتين المدرستين كوكبة من الأئمة الفقهاء اختطوا لأنفسهم طُرُقًا ومناهج يستنبطون بها الأحكام، وذلك لأن نصوص الشريعة ليست كلها قطعية الدلالة على حكم الله تعالى، بل بعضها حمَّالة أوجه، مما جعل أئمة الفقه يضعون لأنفسهم تلك الأصول والطُّرُق التى يستطيعون من خلالها استنباط الأحكام من الأدلة، وصار لكل إمام منهم طلاب وأتْباع يأخذون عنه علمه، ويتبنَّون طريقته، ويقلدونه فى اجتهاداته واختياراته الفقهية المؤسسة على تلك الأصول والطرق والمناهج، وقد عُرفت هذه الطرق فيما بعد بالمذاهب. 

وأوضح لقد انقرض أكثرُ المذاهب الفقهية، وبقى منها عدد من المذاهب أشهرها أربعةٌ هي: مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان (ت 150هـ)، ومذهب الإمام مالك بن أنس (ت 179ه)، ومذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعى (ت 204ه)، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل (ت 241ه)، والخلاف الموجود بين هذه المذاهب الفقهية ناشئ عن أسباب كثيرة، دونها العلماء فى مصنفات مستقلة. 

وتابع: إذا علم المسلم الأسبابَ التى أدت بالفقهاء إلى الاختلاف فى بعض المسائل، فإنه ينبغى عليه أن يعذرهم، ويترحَّم عليهم، فقد بذلوا وسعهم فى خدمة دين الله تعالى وبيان أحكام الشريعة، وينبغى عليه كذلك أن يحذر من التعصب المذهبى، فكل هؤلاء الفقهاء على خير، ومَعِينهم واحد، وهو الكتاب والسنة وما بُنى عليهما، وكلهم كان قصْدُهم واحدًا وهو بلوغ الحق.. وهذا المنحى هو أُسُّ إدارة الخلاف الفقهى.