ثقل المرض على الزعيم الوطنى محمد فريد، وأحس بدنو أجله، فأرسل من العاصمة الألمانية برلين خطابا يوم 11 سبتمبر 1919، إلى صديقه إسماعيل لبيب، المقيم فى جنيف يطلب فيه سرعة الحضور إليه، حسبما يذكر الدكتور رؤوف عباس، فى مقدمته للجزء الأول من مذكرات فريد «تاريخ مصر ابتداء سنة 1891»، مضيفا: «لبى الصديق دعوته، وحين التقى به فى برلين طلب منه محمد فريد أن يتسلم صندوقا أودعه عند سيدة ألمانية، وكان يسكن عندها، وأوصاه أن يحافظ عليه وأن يحمله إلى مصر– حين تسنح الفرصة – ليسلمه إلى ابنه عبدالخالق فريد، أما ذلك الصندوق فكان يضم مذكرات وأوراق الزعيم الراحل».
ساءت الحالة الصحية لفريد بعد ذلك، وأدرك أن ساعة الموت اقتربت، وفقًا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «محمد فريد رمز التضحية والإخلاص»، مضيفًا أنه قال لمن حوله ومنهم الدكتورعبدالعزيز عمران وإسماعيل لبيب: «قضيت بعيدا عن مصر سبع سنوات، فإذا مت فضعونى فى صندوق، واحفظونى فى مكان آمين، حتى تتاح الفرصة لنقل جثتى إلى وطنى العزيز، الذى أفارقه وكنت أود أن آراه»، ودخل فى غيبوبة وأسلم الروح فى منتصف الساعة الحادية عشرة من مساء السبت 15 نوفمبر، مثل هذا اليوم عام 1919.. يؤكد الرافعى أنه فى اليوم التالى شيع المصريون جنازته بما يليق بمنزلته، وتم وضع جثمانه فى تابوت حديد لكى يمكن نقله إلى مصر عند سنوح الفرصة عملا بوصيته، وتم حفظ التابوت فى كنيسة بالقرب من المقبرة، وبقى وديعة لدى حارس الكنيسة، وفى يونيو 1920، سافر الحاج خليل عفيفى التاجر بالزقازيق وعاد بالجثمان على نفقته الخاصة.
مات فى غربته بعد أن غادر مصر سرًا فى 25 مارس 1912 لتأكده من عزم الإنجليز والحكومة سجنه، فقرر مع قيادات الحزب الوطنى أن يغادر مصر لمواصلة كفاحه فى الخارج من أجل الاستقلال.. هذا الكفاح الذى جعله وفقًا لصبرى أبوالمجد فى كتابه «محمد فريد، ذكريات لامذكرات»: «من الشخصيات النادرة الفذة التى تشرق بها صفحات التاريخ من جيل إلى آخر، ولد كما يولد أبناء الأمراء فى فمه ملعقة من ذهب، عاش كما يعيش أبناء الحكام الكبار، بين القصور العالية المليئة بالخدم والحشم، لا يعرف وما ينبغى له أن يعرف شيئًا عن الشعب أملًا وألمًا، وتدرج كما يتدرج أبناء الكبراء والحكام الإقطاعيين الكبار فى الوظائف التى تقربه من طبقة الحكام، غير أنه بعد فترة طويلة من الدراسات والقراءة والتأمل وطبيعة تكوينه الشخصى والنفسى قربته تمامًا من الشعب وآمال الشعب وآلام الشعب».. كان لوالده ألف ومائتان فدان، وكان له هو قصر فى شارع شبرا مساحته 5 أفدنة من أراضى البناء، وعمارتان بشارع الظاهر، وأنفق كل ذلك على الحركة الوطنية، ومات فقيرًا فى غربته.
أدرك حقيقة المسألة المصرية بعد الاحتلال الإنجليزى إدراكًا علميًا، فعرف أسلم الطريق نحو تحقيق المستقبل المصرى، حسبما يذكر أحمد بهاء الدين فى كتابه «أيام لها تاريخ».. يوضح: «انبعث مصطفى كامل كالشعلة توقظ الركود وتنير الطريق، ثم انطفأ ولم يقف فى هذا الومض طويلًا عند فكرة خصبة، مما جعله يتخبط بين تأييد الباب العالى التركى والاستعانة بفرنسا، وجاء فريد ليضع النقاط على الحروف التائهة، ليرسم للبعث المرتقب وسائله وغاياته، وجرت المسألة فى أن وسيلة التحرر من كل سيطرة أجنبية هى: الجلاء، ووسيلة المساواة والمشاركة هى الدستور».
لم يتوقف عند تحديد الأهداف، وإنما امتدت عظمته إلى وضع وسائل تحقيقها، وكانت حسب بهاء الدين: «تعليم الشعب على تفجير الطاقة ليكون أكثر بصرا بحقوقه، وتكتيله فى تشكيلات ليكون أكثر قوة وارتباطا، ثم توجيهه إلى هذه الأهداف فى قوة متدرجة منتظمة وراسخة.. أنشأ مدارس ليلية فى الأحياء الشعبية لتعليم الأميين الفقراء مجانا، وعهد بالتدريس فيها إلى رجال الحزب الوطنى وأنصاره، فكنت ترى المحامى الكبير أو الطبيب الناجح، يخصص من وقته ساعة أو بعض ساعة كل مساء، يقف فيها فى حجرة ضيقة خشنة بسيطة يعلم الفقراء مبادئ القراءة والكتابة وجغرافية بلادهم وتاريخها، وأنشأ أول الأمر أربع مدارس فى بولاق والعباسية والخليفة وشبرا، ثم انتشرت مثيلاتها فى الأقاليم، ووضع أساس حركات النقابات، فأنشأ أول نقابة للعمال سنة 1909، وهى نقابة عمال الصنائع اليدوية ووضع لها قانونا وأنشأ لها ناديا، ثم انتشرت النقابات، ثم اتجه إلى الزحف السياسى ودعا الوزراء إلى مقاطعة الحكم، وعرفت مصر لأول مرة المظاهرات الشعبية المنظمة، كان يدعو إليها، وتجتمع فى حديقة الجزيرة عشرات الآلاف، ثم تسير إلى قلب القاهرة هاتفة بمطالبها، مشتبكة بالبوليس، مضحية بالعشرات، ووضع صيغة موحدة للمطالبة بالدستور، وطبع منها عشرات الآلاف، ودعا الشعب إلى توقيعها وإرسالها إليه ليقدمها إلى الخديو، ونجحت الحملة، وذهب إلى القصر يسلم أول دفعة من التوقيعات 45 ألف توقيع، ثم 16 ألفا».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة