تقرر أن تتوجه نصف القيادة الرئيسية للفدائيين من الإسماعيلية إلى داخل بورسعيد، لتنضم إلى المقاومة الفدائية هناك، بعد أن راوغت القوات الإنجليزية والفرنسية فى ميعاد الانسحاب من المدينة، أثناء العدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» على مصر، والذى بدأت غاراته يوم 29 أكتوبر 1956.. كان محمد فائق «رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان حاليًا»، وعبدالفتاح أبوالفضل «نائب رئيس جهاز المخابرات فيما بعد»، ومعهما ضابط اللاسلكى محمد فرج ضمن الذين سيدخلون بورسعيد، ويكشف «أبوالفضل» فى مذكراته «كنت نائبًا لرئيس المخابرات»، قصة دخولهم المثيرة ومعهم جهاز لاسلكى كان «فرج» هو المسؤول عنه.
يكشف «أبوالفضل»: «وصلنا إلى المطرية تمهيدًا لدخول بورسعيد يوم 16 نوفمبر، مثل هذا اليوم 1956، متسللين، وأبحرنا من «بحيرة المنزلة» بملابس الصيادين على مركب صيد يقودها الريس عبدالمنعم فى اتجاه بورسعيد، وعندما أوشكت على الوصول إلى مشارف المدينة لاحظنا على مرمى البصر وجود نقاط حراسة بريطانية على الشاطئ، ولم يكن قد تم اكتشافها من قبل، فأسرع الريس عبدالمنعم بإجراء مناورة بمركبته وأمر رجاله بالتظاهر بالصيد، بينما طلب منا نحن الثلاثة النزول إلى قاع المركب وكان يستخدم كمخزن لكثير من أجولة السكر والدقيق ومواد التموين وبعض أقفاص السمك».
يتذكر «أبوالفضل» أنه التفت إلى «فائق»، وقال ضاحكا: «علينا أن نعتبر أنفسنا ثلاثة أجولة سكر التى لا تفكر ولاتتكلم، ولكن بوصولها بورسعيد ستكون مادة حلوة»، وشعر الثلاثة بالمركب وهى تدور وتلف كثيرا فى البحيرة».. يؤكد: «فعلا كان الريس عبدالمنعم يتجول بمركبه خلال الأعشاب الطويلة مناورا متظاهرا بالبحث عن السمك والصيد، وتمكن فى النهاية من الخروج من وسط الأعشاب مرة واحدة ومباشرة إلى موقع على شاطئ بورسعيد بعيدا عن نقاط التفتيش البريطانية على بحيرة المنزلة، وأخيرا نادى علينا وخرجنا من قاع المركب واشتركنا مع باقى الركاب فى تفريغ حمولة البضائع».
عبد الفتاح ابوالفضل
كانت هناك عربة كارو يتم جرها باليد فى انتظار الثلاثة، ووضع فيها الريس عبدالمنعم أقفاص سمك، وحسب أبوالفضل: «سرنا مع صاحب العربة إلى مكان معين متفق عليه، أما جهاز اللاسلكى فكان مقسما إلى أربعة أجزاء، ملفوفة فى الخيش وموزعة داخل أربعة أجولة من السكر، وتولى الريس عبدالمنعم مسؤولية توصيلها إلى قيادة المقاومة داخل بورسعيد، وأخيرًا رست المركب على البر فى القابوطى، وتركنا الريس وسرنا خلف عربة اليد كما يفعل أصحاب البضائع الأخرى، ورويدًا رويدًا ابتعدنا عن شاطئ البحيرة بعيدًا عن نقط المراقبة البريطانية حتى دخلنا شوارع المدينة الضيقة، وبعد مدة توقف بنا صاحب العربة أمام مطعم فول وطعمية ونادى على صاحب المطعم الحاج محمد شلاطة، وكان رجلًا مهيبًا كبير السن عليه سمات الصلاح والتقوى، وصعدنا إلى منزل نأخذ قسطًا من الراحة وتناولنا وجبة إفطار شهية فول وطعمية».
يواصل أبوالفضل: «كان «فرج» ضابط اللاسلكى قلقا على جهازه، وفجأة دخل علينا الغرفة الزميل سمير غانم «ضابط مخابرات فى قيادة المقاومة»، فبدلنا ملابس الصيادين بملابس عادية أحضرها سمير، وذهبنا معه إلى مركز قيادته بمكتبة محمود العدنى، وكان من أفراد المقاومة بالحى الأفرنجى، وهناك وجدنا أجزاء الجهاز الأربعة ملفوفة بأوراق جرائد وجاهزة للتوصيل إلى أحد المنازل لتركيبه وتشغيله من هناك، وفى صمت دخل علينا الشاب يحيى الشاعر وعمره آنذاك لا يتعدى ثمانية عشرة عاما، فأخذ إحدي اللفافات الأربع وخرج بها فوضعه على دراجة وانطلق، وعلى التوالى حضر ثلاثة شبان آخرون كرروا نفس مافعله، وانزعج صاحب الجهاز فطمأنته بأن الجهاز سيتم تجميعه فى منزل»الشاعر»وأخذنا نضحك».
توجه الجميع إلى منزل يحيى الشاعر، ويكشف «أبوالفضل» ما حدث فيه: «استقبلتنا والدته السيدة أمينة محمد الغريب بترحاب وبشاشة وأمومة محببة للنفس، وساهمت هذه السيدة الفاضلة بشجاعتها وأبنائها الثلاثة فى أعمال المقاومة.. أفرغت جزءا من دولاب ملابسها لإخفاء الجهاز داخله، وفى الوقت نفسه جمع ضابط اللاسلكى أجزاء الجهاز داخل الدولاب وصعد إلى سطح المنزل وثبت الهوائى بحيث لا يسترعى الانتباه، ثم قام بتشغيله حتى تم الاتصال بالقاهرة والإسماعيلية».
لم يغادر «فرج» وجهازه هذا المنزل حتى انسحب العدوان من بورسعيد.. يؤكد «أبوالفضل»: «كان هذا هو الجهاز الوحيد الذى نقل أخبار بورسعيد بشفرة خاصة إلى مراكز القيادات، إلا أننا لم نستخدمه فى نقل أية أخبار عن المقاومة حتى لا نقع فى المحظور، لو أمكن للبريطانيين حل شفرته».. يضيف: أقمت أنا ومحمد فائق فى شقة بالحى الأفرنجى لضابط البوليس سامى خضير «المحافظ فيما بعد» المكلف من المحافظة للاتصال بالمقاومة».. يكشف: «اتخذت لنفسى اسما مستعارا لصاحب محل دراجات تهدم من آثار العدوان، وكان المحل يقع أمام مكتبة العدنى، فانتحلت اسم صاحب المحل وهو محمد غريب خليل، بينما اتخذ محمد فائق اسما آخر لأحد المدرسين بالمدرسة الثانوية ببورسعيد، الذى هاجر مع أسرته إلى القاهرة، واستخرجنا بطاقات شخصية بذلك عن طريق سامى خضير».
محمد فائق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة