ظلّ محمود حسين قابضًا على مقاليد الشأن الإخوانى فى تركيا طيلة السنوات الأربع التالية لثورة 30 يونيو، ومن فَرط توهُّمه السيطرة على الأمور، لم يلحظ الإزاحات الطفيفة، التى نشأت وشقَّت طريقها للتوسُّع والتعمُّق فى صفوف الجماعة، فأغراه الاستحواذ على التدفُّقات المالية وخطوط الاتصال بالنظام التركى، وحلفاء الجماعة النازحين معها إلى الدوحة واسطنبول، بالاتجاه لتصفية خصومه تصفية ناعمة، عبر الإطاحة الكاملة بهم من المشهد.
ربما لم يجد الأمين العام نفسه فى حاجة للإبقاء على مُعادلة المُواءمة والاحتواء، عقب موجة الفرز الأولى فى 2016، واكتشافه توزُّع قواعد الجماعة بالداخل بين الولاء لسيرة القائد الحركى القتيل محمد كمال، أو الولاء للقائم بعمل المُرشِد، المُختفى محمود عزّت، ثم انحياز دوائر واسعة بالمجلس الثورى والتنظيم الدولى لـ«عزت» وشباب الحراك المُسلَّح، وانقسام جبهة برلمان الجماعة وجناح الجمعيات الإسلامية والمُنظَّمات الحقوقية فى أوروبا والولايات المتحدة، وصولًا إلى اعتماد بعض المنصَّات الإعلامية خطابًا ناقدًا لمُمارساته ورافضًا لإدارته.. وقتها يبدو أنه قرَّر اللعب بالقَدر الأقصى من النفى والاستبعاد، وترجم تلك الرؤية فى إفطار الجماعة الرمضانى بمَوسمى 2017 و2018، وللمرة الأولى منذ خمس سنوات، غابت وجوه بارزة عن موائد إخوان تركيا، ليس لأنهم خالفوا التنظيم ورفضوا أجندته وشقَّوا عصا الطاعة عليه، ولكن لأنهم اقتربوا فقط من مساحة «حسين» وهدَّدوا نفوذه وإمبراطوريّته الناشئة فى بلاد الأتراك.
كان مُعتادًا منذ نزوح الموجة الأولى من كوادر الجماعة إلى تركيا، أن يتكفَّل نظام أردوغان وبعض الوُجهاء والمراكز المالية فى حزب «العدالة والتنمية» بنفقات اللقاءات والتجمُّعات والاحتفالات التى تُنظّمها الجماعة، ومنها الإفطار السنوى فى شهر رمضان، لكن علاقتهم بالأمر لم تتجاوز اللوجستيات والمُساندة المالية، وتركوا المسائل التنظيمية وقوائم المدعوّين للأمين العام ورجاله، وهو ما يسَّر لـ«حسين» إصدار فرمانات باستبعاد المغضوب عليهم، وتنفيذها دون مراجعة أو تصويب.. لكن الإزاحات التى لم يلحظها، أو تجاهلها اعتقادًا منه فى انعدام تأثيرها، كانت قد قطعت شوطًا طويلاً على طريق إعادة صياغة تفاصيل المشهد الإخوانى فى اسطنبول.
لم يكُنْ كوادر الجماعة مُستسلمين لوصاية الأمين العام، كما تصوَّر «حسين» ورجاله. فخلال السنوات التالية للانتقال إلى تركيا، ومع تصاعد بوادر الاحتقان ومؤشِّرات الصدام، فتح فريق منهم قنوات اتصال مع نظام أنقرة، كان فى مقدمتهم جمال حشمت، وعمرو عبد الهادى، وهيثم أبو خليل، وعبد الرحمن القرضاوى، وسيف عبد الفتاح، وعصام تليمة، وأشرف عبد الغفار وعمر بسام وآخرون، وبفضل تلك الاتصالات حصل عشرات من أعضاء الجماعة على الجنسية أو الإقامة الدائمة، وأمَّنت لهم الحكومة وظائف ومساكن وعلاقات اقتصادية ومالية مع مؤسسات الدولة ومستثمرى الحزب، والأهمّ أنهم أصبحوا طرفًا مُباشرًا فى علاقة الجماعة بدوائر السلطة، ليكسروا للمرّة الأولى احتكار محمود حسين لتمثيل الإخوان والحديث باسمهم أمام النظام، وبفضل تلك التحوّلات العميقة وقف الأمين العام عاريًا من نفوذه، حتى فى حيِّزه المعنوى، مع تجريده من الهيمنة الكاملة على طقس الولاء واستعراض القوّة السنوى على موائد رمضان.
فى إفطار الجماعة الأخير، مطلع الأسبوع الماضى، عاد محمود حسين خطوات عديدة إلى الخلف. انتقل الحفل إلى فندق آخر حدَّده رجال «العدالة والتنمية»، وقرر النظام التركى أن يخترق قلب المشهد بحضور مُباشر بدلًا من الوكلاء أو التمثيل الهامشى عبر مسؤولى البلديات، فدفع بمستشار أردوغان المُقرّب، ياسين أقطاى، ليُجالس الجماعة ويقود موائدها، أما قائمة المدعوّين فقد عادت للاتّساع بعدما ضيَّقها رجال «حسين»، فلم يُسمح لهم إلا بدعوة قرابة 100 من إجمالى 500 شخص حضروا الإفطار، واستُدعِيَت وجوهٌ كانت مُستبعدةً بفرمانات الأمين العام، كما حضر همّام على يوسف مُمثلًا للجماعة فى تركيا، وحَميد الأحمر من اليمن، ومحمد حكمت مُراقب إخوان سوريا، وماهر أبو جواد رئيس حركة حماس بالخارج، ما بدا وكأنّه تدويل للكتلة المصرية فى اسطنبول، ونزع لوصاية «حسين» بإسباغ نكهة التنظيم الدولى على الفاعلية، وتعمَّق الكيد بالسماح لقناة «مكمِّلين» بتغطية الإفطار، بينما يراها عدوًّا مُباشرًا له، وناقدًا دائمًا لإدارته التنفيذية وملفّاته المالية.
لم يستطع «حسين» كِتمانَ غيظه، أو تجاهُل دائرة الحصار المضروبة حول سلطاته، التى كانت واسعة قبل أن يُقرّر خصومه ونظام «العدالة والتنمية» تحجيمها، فأشار للمتحدث الرسمى طلعت فهمى بتنحية ميكروفون القناة قبل أن يتأهَّب لإلقاء كلمته. وقد تسبَّب المشهد فى خروج الصراع من جدران الفندق وحفل الإفطار، حينما تحدَّث عنه عصام تليمة، عضو شورى الجماعة وسكرتير القرضاوى السابق، عبر صفحته على «فيس بوك»، لينبرى تابعو محمود حسين، ومنهم المذيع محمد جمال هلال، نافين الموقف ومُنتقدين «تليمة» وخروجه على التنظيم. لكن أخطر ما كشفه الأخير تفاصيل الرسائل التى يُوجّهها رجال «حسين» للصفّ مُتضمّنة أخبارًا ومعلومات مغلوطة، وهو ما كشفته «اليوم السابع» فى سلسلة تقارير مُوثّقة قبل أسابيع، استعرضت فيها تفاصيل تلك الرسائل، وأهدافها، ومسار تحويلها إلى مقاطع صوتية، وتسريبها للمسجونين، بغرض الإبقاء على ولائهم وحصار موجات الانشقاق والتمرُّد على صقور التنظيم.
فى الوجه الظاهر، تبدو أزمة الإفطار، وما سبقتها من صراعات، نتاج الأطماع الشخصية ورغبة السيطرة لدى وجوه الحرس القديم والقادة التاريخيّين للتنظيم. لكن فى الجوهر يحمل المشهد أبعادًا أعمق وأكثر حدّة، تُلخّص المحنة الوجودية، والخلل الهيكلى الذى تعيشه الجماعة، بعدما عاشت ثمانية عقود على مُدوّنات حسن البنا، الطالعة من رحم الاحتلال وتجاذبات القصر والوفد، وعجزت طوال تلك السنوات عن مُواكبة التحوّلات الاجتماعية والسياسية، أو اعتماد رؤى فكرية وتأسيسيّة مُغايرة لما صكَّه المؤسِّس، وهو ما وضع الجماعة فى مُصادمات حادّة ومُتكرِّرة مع الغلاف الاجتماعى والمؤسَّسى المُحيط، ودفعها بقوة على مُنحدرٍ لا يبدو أنه قد ينتهى قريبًا، أو أن التنظيم قد يخرج منه سليمًا، هذا إن خرج أصلاً!