- اتهم زوجته بالهلوسة عندما فاز بـ«نوبل» ويؤكد: لم أضع الجائزة فى ذهنى أبداً
وحده نجيب محفوظ هو الذى استطاع أن يهزم شاشة السينما، استطاع بالورقة والقلم أن يرسم صورة، ويقدم مشاهد من زوايا مختلفة تفوقت على تلك المشاهد التى صنعها المخرجون بكاميراتهم لرواياته، كل شخصية من شخصيات رواياته كانت تنبض بالحياة على الورق قبل أن يسعوا لإعادة بعثها على شاشة السينما مرة أخرى.. كل بطل وكل حارة وكل حدوتة وكل قصة حب فاشلة وكل نهاية سعيدة كنا نشاهدها على ورق روايات نجيب محفوظ دون الحاجة إلى مخرج وكاميرات وممثلين ودار عرض.
صاحب نوبل، الذى جسد العديد من الشخصيات داخل الواقع المصرى، متأثرا ببيئته الشعبية البسيطة وبعمقها الأصيل، استطاع بعبقرية، أن يوظف المرأة فى كل أعماله وحملها رسائله للقراء، فالمرأة عنده تاريخ وجغرافيا وانتصارات وانكسارات عاشتها مصر التى كتب عنها.
وبتأمل كتاب «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه وحياته» للكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش، الصادر عن دار الشروق، فى 376 ورقة من الحجم الكبير، يتضح لنا العديد من التفاصيل فى حياة صاحب نوبل فى الآداب عام 1988م.
فبحسب كتاب «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء على أدبه وحياته» للكاتب والناقد الراحل رجاء النقاش، يقول «محفوظ»: كنت أرد على مشاكل الناس التى تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب، ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس، أما فى إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى، فبطل «القاهرة الجديدة» عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة، ولكن «سقوطه» بدأ وهو طالب، وبطل «خان الخليلى» كان زميلاً لنا فى إدارة الجامعة اسمه أحمد عاكف، وقد جاء يشكرنى بعد قراءته للرواية على محبتى له، للدرجة التى جعلتنى أطلق اسمه على بطل الرواية.
وتابع محفوظ عن فترة وظيفته: «كما اصطدمت فى الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسى بين الموظفين، وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشىء إلا بسبب ممارسته للشذوذ مع كبار الموظفين، وهو ما عطل ترقية محفوظ نفسه إلى الدرجة الرابعة رغم تبليغه بالأمر رسميا من قبل مديره، ويقول ساخرا: «وكان الشاذون جنسيًا فى نعيم حقيقى، وكانوا يجدون دائمًا من يساندهم».
أما عن أبرز المواقف التى واجهت صاحب «نوبل» أثناء عمله بالرقابة، فكانت من بينها أنه فوجئ بمراقب الأغانى يمنع أغنية «يا مصطفى» والتى تقول كلماتها «يا مصطفى يا مصطفى/ أنا بحبك يا مصطفى/ سبع سنين فى العطارين».
ويأتى سبب الرفض، كما ذكره محفوظ فى حواره مع الناقد الراحل «رجاء النقاش»، أن المراقب قال إن مؤلف الأغنية يقصد مصطفى النحاس، وإن «سبع سنين» الواردة فى الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على الثورة، وهنا علق محفوظ موضحًا: «إلى هذا الحد من ضيق الأفق كانت العقليات التى تعمل فى جهاز الرقابة».
أما التى كانت بتدخل شخصى من «محفوظ»، فاختلافه مع مدير الرقابة على الأفلام محمد على ناصف، لأنه سمح بعرض فيلم سينمائى أجنبى يسىء لليابان، وكان احتجاجه أن اليابان ساندت مصر ضد الولايات المتحدة وتعتبر دولة فى موقع الرضا والصداقة، وبالفعل تم وقف عرض الفيلم بعد احتجاج السفير اليابانى للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى أمر بوقف عرضه مباشرة.
وفى موقف آخر، قام «محفوظ» بحذف بعض الأغانى للمطربة صباح من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب رأى أنها تؤديها بطريقة مثيرة، ويقول «محفوظ»: ظللت فى موقعى كرقيب لمدة عام ونصف تقريبًا، وجاء خروجى منه كنتيجة أزمة رواية «أولاد حارتنا»، وتابع: «ففى مجلس الوزراء شن الدكتور حسن عباس حلمى، وزير الاقتصاد وقتها، حملة على الدكتور ثروت عكاشة، كانت وجهة نظر الأول أن «عكاشة» أسند مهمة الرقابة لرجل «متهم فى عقيدته الدينية».
أما عن يوم فوزه بجائزة نوبل فى الآداب، فيذكر الأديب الراحل: «كانت زوجتى بمفردها ترتدى زى المطبخ وتكاد تنتهى من إعداد الغداء، أما ابنتاى فهما فى عملهما. تناولت الغداء ودخلت غرفة النوم لأستريح، ولم تمض دقائق معدودة إلا وجدت زوجتى توقظنى من النوم فى لهفة: «قوم» الأهرام «اتصلوا بك وبيقولوا إنك أخذت جائزة نوبل»، فاستيقظت وأنا فى غاية الغضب، معتبرا كلام زوجتى مجرد هلوسة خاصة بها، لأنها منذ عدة سنوات سابقة، وهى دائمة الحديث عن جائزة نوبل وأحقيتى فى الفوز بها، وكنت أقول لها إننى أرجوها أن تعقل وتفهم أن جائزة نوبل ليست سهلة المنال، كما أننى لا أفكر فيها، وأرجوها ألا تأتى بسيرتها أمامى، أو تفكر هى فيها».
وفيما كان محفوظ يتحدث مع زوجته، دق جرس التليفون وحسب قوله: «كان المتحدث الأستاذ محمد الباشا الصحفى بالأهرام»، وبادرنى بالتهنئة: «مبروك يا أستاذ»، فرددت عليه: «خير إن شاء الله»، قال لى إننى فزت بجائزة نوبل، فلم أصدقه، فأعطى سماعة التليفون إلى الأستاذ سلامة أحمد سلامة، مدير تحرير الأهرام، الذى حدثنى بصوت ملؤه الفرحة: «مبروك يا أستاذ شرفتنا، جاءتنا نتائج جائزة نوبل وأنت فزت بجائزة الأدب».
بالرغم من اتصال «الأهرام» فإن «محفوظ» يعترف بأنه ظل لا يصدق: «لكن لم تمض دقائق معدودة، كنت أجلس خلالها فى فراشى محتارا وغير مصدق، حتى دق جرس باب الشقة، وفتحت زوجتى الباب وهى بعد بملابس المطبخ، ودخل رجل طويل ومعه مجموعة من المرافقين، فنهضت من فراشى إلى الصالة مرتديا ملابس النوم «البيجامة»، ونظرت إلى الرجل الذى حسبته فى البداية صحفيا، وفوجئت بأحد مرافقيه يقدمه لى: «سعادة سفير السويد وحرمه».
يواصل «محفوظ»: «هنأنى السفير بالجائزة وقدم لى هدية رمزية عبارة عن قدح من البنور أشبه بصناعات خان الخليلى، واستأذنت منه ودخلت غرفتى وارتديت بدلة، لأننى تأكدت أن المسألة جد، وبمجرد انصراف السفير تحولت شقتى الصغيرة إلى شىء أشبه بالسوق، صحفيون ومصورون ومهنئون وفرحة غامرة فى المكان، وأحاديث صحفية سريعة، والتليفون لا يتوقف عن الرنين».
بعدما يؤكد «محفوظ» أن الحصول على «نوبل» لم يكن من بين أحلامه يذكر الأسباب: «كنت أعجب من الكتاب العرب المهتمين بها، ربما يعود وذلك لأسباب كثيرة منها: أننا جيل نشأ على «عقدة الخواجة»، وهى العقدة التى أحدثت فى نفوسنا نوعا من عدم الثقة بإمكانياتنا، خاصة أن ذلك العصر كان مليئا بالعمالقة من الكتاب العالميين، الذين كانوا يمثلون بالنسبة لى رموزا وأساتذة مثل، برنارد شو وتوماس مان وأناتول فرانس وجان بول سارتر وألبير كامى، كما كان لدينا كتاب عمالقة مثل عباس محمود العقاد الذى كنت أرى أنه يستحق الجائزة عن جدارة، وربما فاق فى موهبته عددا من الأدباء الذين حصلوا عليها».
يضيف: «لم أضع جائزة نوبل فى ذهنى أبدا، وأحمد الله على ذلك فلو كنت أعطيتها اهتماما مبالغا فيه لكان حدث لى «حرق دم» من متابعتها سنويا»، ويذكر سببا آخر لعدم التفكير فى هذه الجائزة والسعى إليها سواء منه أو من أحد أبناء جيله من الأدباء: «كنا نؤسس أشكالا أدبية جديدة على الأدب العربى، بعض منا فى الراوية، والبعض الآخر فى القصة، وثالث فى المسرح، وآخرون فى الشعر، وهكذا، والذى يقوم بتأسيس لون أدبى جديد لا يتطلع إلى جائزة، بل يكون كل همه وضع البذرة، وكانت عقدة الخواجة مسيطرة علينا لدرجة أن بعض أدباء جيلنا كان يكتب القصة القصيرة ويضع عليها أى اسم أجنبى حتى تنتشر، وأنا لم أقدم على هذا التصرف، وهذه العقدة بدأت فى التلاشى مع عهد جمال عبدالناصر، لأن الروح الجديدة التى شعرنا بها أعطتنا ثقة بأنفسنا لم تكن موجودة من قبل، فحدث نوع من التطلع نحو العالمية».
من أصعب الأيام التى مر بها أديب نوبل الراحل، هو تعرضه لحادث الاغتيال يوم 17 أكتوبر 1994، وهو تحدث عنه أيضا حيث أوضح أنه كان يستعد للذهاب كعادته كل يوم جمعة إلى ندوته الأسبوعية فى كازينو «قصر النيل»، وأمام المنزل كان صديقه الدكتور البيطرى «فتحى هاشم» يقف فى انتظاره لينقله إلى الكازينو بسيارته «الفيات- ريجاتا» الحمراء رقم «328796» ملاكى القاهرة، وبمجرد أن جلس «محفوظ» فى المقعد الأمامى للسيارة، واستدار الطبيب فتحى هاشم ناحية الباب الآخر للسيارة وهمّ بفتحه، اقترب أحد الأشخاص من نجيب محفوظ، واستل «مطواة» وطعنه بها فى رقبته، ولاذ بالفرار، ليلتقى بباقى المجموعة الإرهابية فى مكان قريب من بيت «محفوظ».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة