كان من المثير للدهشة أن تم تقديس وتأليه بعض الملوك الفراعنة فى حياتهم فى مصر القديمة، وكذلك امتد ذلك التقديس إلى بعض الشخصيات المبجلة بعد مماتهم.
وفى هذا السياق، تعد ظاهرة تقديس وتأليه الملوك الفراعنة فى حياتهم من أكثر الظواهر إثارة للجدال حول طبيعة ومفهوم تقديس البشر الأحياء فى ديانة مصر القديمة.
ويقول عالم الآثار الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف آثار مكتبة الإسكندرية، إنه بالرجوع إلى النصوص المصرية القديمة، نجد أنها أطلقت على الحاكم لفظة ملك "نسو" ولفظة إله "نثر"، وقد قُدس الملك فى العبادة المصرية القديمة فى حياته وبعد مماته وفقًا لهذا المفهوم ولتلك النظرة المقدسة للملك المصرى القديم، وعلى الرغم من أن دراسة طبيعة ومفهوم الملكية فى مصر القديمة توضح أنه إذا كان ملك مصر ينعت عادة بلفظ "إله"، فإنه فى نصوص أخرى كان يعامل على أساس غير إلهى مقدس بالمرة.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا، فما قصة تأليه الحاكم فى مصر القديمة؟، فأوضح الدكتور حسين عبد البصير، أنه فى واقع الأمر، فإن أصل الحقيقة يرجع إلى أن الملك فى مصر القديمة كان يحوز ويحافظ على الألوهية المقدسة نتيجة لعدد من الطقوس الملكية المهمة والتى كان من خلال ممارسته لها تتحقق له ألوهيته الرمزية والفعلية على السواء، وكان من بين أهم تلك الطقوس، تتويج الملك الإلهى على عرش مصر المقدس والذى كان ينظر إليه على اعتباره الطريقة المثلى التى من خلالها كان يمكن للملك أن يتحد مع "الكا" أو "القرين" الخاص به، الملكية المؤلهة الخاصة به، وكانت تمثل تلك "الكا" الملكية "قوة الحياة الموروثة"، وكانت أيضًا تعبر عن "الروح المبدعة الخالدة للملكية المؤلهة" فى مصر القديمة.
وأضاف الدكتور حسين عبد البصير، وكان هذا الاتحاد ذا أهمية قصوى، إذ كان يقوى من حكم الملك ويدعم مفهوم وأسس ملكيته المقدسة، ومن هذا المنطلق، كان الملك يستقبل طقوس العبادة باعتباره مقدسًا مثل "الكا" الملكية المؤلهة الخاصة به، وأصبحت تلك الطقوس بارزة فى عصر الدولة الحديثة وتحديدًا منذ بداية حكم ملك الشمس "أمنحتب الثالث"، والد فرعون التوحيد الملك "أخناتون"، وكانت تماثيل الملوك الفراعنة تستقبل القرابين مثلها مثل تماثيل الآلهة، وذلك من خلال طقوس تقديم الخدمة اليومية داخل المعابد المصرية القديمة العديدة، ولعل أبرز الآثار التى خصصت لعبادة الملك الحى هو معبد الملك الشهير نجم الأرض رمسيس الثانى بـ"أبو سمبل"، بمحافظة أسوان فى جنوب مصر، وهناك عدد من المناظر يصور الملك المؤله فى حياته يقدم القرابين لذاته المؤلهة، وفى هذا السياق، فإن الملك لا يعبد نفسه بقدر ما يعبد ويكرس ويقدس مفهوم الملكية المؤلهة فى "الكا" الملكية المؤلهة التى يمثلها وفقًا لمفهوم الملكية عند المصريين القدماء.
وتابع مدير متحف آثار مكتبة الإسكندرية، واستمرت عبادة الملك المؤله بعد وفاته، وترجع أهمية الملك فى مصر القديمة إلى عظم الدور الذى كان يقوم به فى المجتمع المصرى القديم سواء من الناحية الدينية أو من الناحية السياسية وحفظ النظام الكونى، ومن هذا المنطلق، فقد كان الملك المصرى القديم شخصًا مقدسًا فى أغلب الأحوال، وكانت عبادة الملك من أهم الملامح الحضارية فى مصر القديمة، وتظهر عبادة الملك جلية فى الآثار الملكية العظيمة والعديدة مثل المجموعات الهرمية فى عصرى الدولتين القديمة والوسطى والمعابد الجنائزية فى عصر الدولة الحديثة على الشاطئ الغربى لنهر النيل العظيم بمدينة الأقصر الخالدة.
وأشار الدكتور حسين عبد البصير، إلى أنه منذ بدايات التاريخ المصرى القديم، احتوت المقابر الملكية على مكان لتقديم القرابين المادية الخاصة بالطعام والشراب لروح الملك المتوفى، واحتوت المجموعات الهرمية الخاصة بملوك عصر الأسرة الرابعة وما بعدها على معبد جنائزى كان يقع فى الناحية الشرقية من المجموعة الهرمية وكان مخصصًا لعبادة الملك المتوفى من خلال تمثال يمثله ويستقبل نيابة عنه الطقوس ويتسلم القرابين.
ولفت إلى أنه بنى ملوك الأسرة الثامنة عشرة من عصر الدولة الحديثة ما يطلق عليه اصطلاحًا "معابد تخليد الذكرى"، وأعنى ذكرى الملوك المصريين القدماء من الموتى المبجلين، وبنيت تلك المعابد على الجانب الغربى بحذاء شاطئ النيل حتى تستقبل زوار تلك المعابد فى الأعياد والمناسبات التى كان يتم فيها تقديم القرابين وزيارة الملوك الموتى والعناية بأرواحهم الطاهرة، وفى تلك المعابد الكبيرة الخالدة التى كانت تدار بواسطة الدولة والكهنة المكرسين لخدمتها والعمل على خدمة أرواح الملوك الموتى، استمرت أرواح الملوك الموتى فى استقبال القرابين مثلها فى ذلك تمامًا مثل الإلهين الشهيرين "آمون" و"رع حور آختى"، وكذلك بنى ملوك الدولة الحديثة العظام ما يطلق عليه "معابد ملايين السنين" كأماكن مخصصة لـ "الكا" الملكية المؤلهة قبل وبعد موت أولئك الملوك، وكذلك امتدت عبادة الملوك الموتى لمعابد غير تلك التى كانت تديرها الدولة مثل ما فعله العمال والفنانون المهرة بناة المقابر الملكية وغيرها، الذين كانوا يقطنون فى منطقة دير المدينة والتى تقع على الشاطئ الغربى لنهر النيل بمدينة الأقصر الساحرة، حينما بنى أولئك العمال والفنانون العظام بعض المقاصير وخصصوها لتقديس وتكريم الملك المقدس "أمنحتب الأول"، ابن طارد الهكسوس "الملك أحمس الأول" العظيم، وأمه الملكة الخالدة "أحمس نفرتارى" اللذين قدسهما أولئك العمال والفنانون باعتبارهما المؤسِّسين والراعيين الحاميين للمدينة ولهم بالتبعية. وفي هذا ما يُذكِّر بمثل الصنيع الذي فعله عمال المناجم في عصر الدولة الوسطى في شبه جزيرة سيناء حينما قدسوا وأقاموا العبادة للملك المؤله طويلاً "سنفرو" العظيم، والد الملك "خوفو" صاحب الهرم الأكبر بالجيزة.
إن طبيعة الملك الحاكم فى مصر القديمة كانت تختلف تبعًا لطبيعة العصر الذى عاش فيه الملك خصوصًا فى عصور القوة والثراء وامتداد الحكم، وقد أضفت تلك العصور بالضرورة على ملوكها المهابة والقداسة، فمال بعضهم إلى تقديس ذاته فى حياته، مثل سنوسرت الثالث ورمسيس الثانى وغيرهما، وكانت طبيعة الملك تختلف وفقًا لطبيعة وشخصية الملك نفسه، فكان منهم ملوك مؤلهون فى حياتهم، وكان هناك آخرون عاديون فى حياتهم ومقدسون بعد وفاتهم، غير أنه، فى الأغلب الأعم، كانت القداسة تحيط بأغلب ملوك مصر الفرعونية؛ لأنهم كانوا أبناء الآلهة على الأرض الذين يحكمون مصر والعالم نيابة عن آبائهم المقدسين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة