كان الملك فاروق فى قصر المنتزه بالإسكندرية، وفى الساعة الثالثة والنصف تماما مساء يوم 17 يونيو، مثل هذا اليوم، عام 1940، استقبل السفير البريطانى فى القاهرة «مايلز لامبسون» الشهير بـ«اللورد كيلرن»..كان الملك بمفرده وفى ملابسه الرسمية، حسبما يؤكد «كيلرن» فى الجزء الأول من مذكراته «ترجمة:عبدالرؤوف أحمد عمرو».. مضيفا: «بدأت حديثى بالأمور البسيطة، وأخبرته بشكل مفصل عن وقائع تشغله وتحزنه».
جاءت المقابلة بعد خمسة أيام فقط من موافقة مجلسى البرلمان «النواب والشورى» على سياسة وزارة على ماهر باشا نحو إعلان إيطاليا دخول الحرب العالمية الثانية يوم 10 يونيو 1940، ووفقا لصبرى أبوالمجد فى الجزء الثالث من كتابه «سنوات ما قبل الثورة1930 - 1952»: «اجتمع مجلسا البرلمان: الشيوخ والنواب فى 12 يونيو 1940، أى بعد دخول إيطاليا الحرب بثمان وأربعين ساعة، وألقى على ماهر رئيس مجلس الوزراء فى جلستين سريتين بيانا عن سياسة الحكومة المصرية إزاء دخول إيطاليا الحرب، وكان مجمل الخطوط الرئيسية لتلك السياسة هو، تجنيب مصر ويلات الحرب مع الوفاء بتعهداتها، وتقديم أكبر عون ممكن لبريطانيا، الحليفة، فى دفاعها عن الحق والحرية فى حدود معاهدة 26 أغسطس 1936، معاهدة الصداقة والتحالف، وأن يكون موقف مصر دفاعيا مع قطع العلاقات السياسية مع إيطاليا، واعتقال معظم رعاياها فى مصر».
كانت مصر تحت الاحتلال البريطانى، وكانت إيطاليا إلى جانب ألمانيا تقودان دول «المحور» ضد بريطانيا فى الحرب، وكان «لامبسون» أو «كيلرن» قد وصل إلى مرحلة الهياج، بوصف أحمد عزالدين فى تحقيقه ودراسته لمذكرات مصطفى النحاس باشا «الجزء الثانى»، مشيرا إلى أن هذا الهياج كان بسبب ما اعتبره ميول على ماهر نحو «إيطاليا والمحور».. يؤكد «عزالدين» أن جلسة «الشيوخ والنواب»السرية يوم 12 يونيو 1940 انتهت إلى أن مصر لن تشارك فى الحرب إلا إذا اتبعت إيطاليا إحدى الوسائل التالية فى مهاجمتها:غزو الأراضى المصرية، تدمير المدن المصرية عن طريق الجو، القيام بغارات جوية ضد أهداف عسكرية مصرية».
شهدت مقابلة السفير البريطانى مع الملك مفاجأة تكشف إلى أى مدى كانت كل تحركات وتصرفات فاروق مكشوفة ومرصودة من قوات الاحتلال البريطانى، حيث قام السفير بمناولة فاروق تقريرا وصورا تلقاها من الأميرال «إليوت» قائد قوات الأسطول الإنجليزى بالإسكندرية، تتضمن رصد أضواء على ساحل الإسكندرية لعدة ليال، وأن هذه الأضواء إما أن تكون إشارات للغواصات المعادية أو لتسهيل قيام الإيطاليين ببث الألغام، وكانت المفاجأة أن المنزل الذى ظهر فى الصور وكانت تنبعث منه هذه الأضواء كان بحسب قول لامبسون لفاروق: «هو القصر الملكى الذى نجلس بداخله فى هذه اللحظة».
يذكر «لامبسون» نصا فى مذكراته: «انتقلت فى حديثى مع الملك إلى تساؤل لطيف عن التقرير الذى تسلمته من الأدميرال إليوت، قبل أن آتى مباشرة، وفيه أنه شاهد الأضواء لعدة ليال متوالية على الشاطئ مما سيكون مفيدا للغواصات، ولتختبر مدى قوة وتحمل صمود قواتنا للإيطاليين.. سلمنى «إليوت» صورا فوتوغرافية توضح المكان الذى كان مصدرا للضوء، وهو قصر المنتزه الذى نحن به الآن، وسلمت جلالته صورة من تقرير إليوت، وكذلك نسخة من الصورة الفوتوغرافية، وكان مندهشا، لأن جلالته أصبح موضع اشتباه، كما كنت متأكدا تماما بأن قصره كان مصدر الضوء للقوات الإيطالية».. يذكر لامبسون رد فعل فاروق: «عندئذ قال إنه سوف يهتم بهذا الأمر فى الحال، وكنت سعيدا بذكر هذه الواقعة آنذاك، وفى الواقع كنت أرغب أن يتعاون معنا».. يؤكد «عزالدين»: «أكمل لامبسون مفاجأته للملك فى كلمات حاسمة:على ماهر يجب أن يذهب، أوأن يذهب سريعا جدا، وإننا لن نوافق على عودته إلى القصر».
كان السفير البريطانى فى مطلبه ينقل أوامر حكومته فى لندن التى تتعامل مع مصر باعتبارها دولة تحت سيطرتها، ولايمكن أن تسمح لها بأى حال من الأحوال الخروج عن طاعتها.
يذكر «أبوالمجد»، أن«لامبسون» قال لفاروق إنه يحمل رسالة شفهية من اللورد هاليفاكس وزير الخارجية البريطانية، فطلب منه فاروق أن يدون تلك الرسالة كتابة: وينتحى السفير البريطاني ركنا من أركان غرفة الملك، ويكتب وبالقلم الرصاص الرسالة التالية: «من الواضح، أن على ماهر لايجرؤ على مواجهة الصعاب والأخطار التى تنطوى عليها حتما الحالة الحاضرة بالنسبة لمصر، وحتى إذا أجاب مطالبنا فإنه لا يخفى أن ذلك مخالف لإرادته ورأيه، ولايمكن أن يستمر الحال على ذلك، وبناء عليه فإن تعليماتى إليكم هى: أن تخبروا الملك فاروق،أن أسوأ سياسة فى وقت الحرب إنما هى سياسة الشك. إن موقف على ماهر لا يتفق مع روح المعاهدة، ولا يمثل شعور مصر والشعب المصرى، بل لا يخدم مصالح مصر العليا».
«تعليماتى إليكم هى أن تجبروا الملك فاروق».. هكذا كان نص رسالة وزير الخارجية البريطانية لسفيره، فماذا فعل السفير وكيف تصرف الملك؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة