«ومخالب إذا لزم الأمر» عنوان الديوان الثالث للشاعر خالد أبوبكر الذى صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويمثل تجربة خاصة فى سياق قصيدة النثر المصرية، كما يعد نقلة نوعية على مستوى تطور تجربة الشاعر نفسه الذى يبدو غير معنى بالنشر أصلا بقدر اهتمامه بتقصى موضع قدميه فى هذا العالم المعقد تعقيد الغابة والغامض غموض ليل مدينة القاهرة والصعب كفعل الحياة نفسه.
الديوان الأول لخالد أبوبكر صدر عام 2000 ضمن سلسلة الكتاب الأول بالمجلس الأعلى للثقافة بعنوان «كرحم غابة»، وتشى قصائده بموقف صاحبها الحياتى والجمالى الذى يعتبر العالم غابة، على الشاعر ألا ينسى أبدا أنه إنسان يجب عليه أن يبقى على قيد الحياة، كما يجب عليه باعتباره شاعرا أن ينصت ويحدق فى تجليات هذا العالم الوحشى الذى ينساب من حوله بمباشرة وبساطة، هل يمكن اعتياد الحياة فى الغابة ؟ نعم ، ولكن على أية صورة يمكن أن تكون فى هذه الغابة؟ وحشا كاسرا أم فريسة؟ وما هو القانون الذى تقبل أن تعتمده؟ الأصعب أن تكون شاعرا يمتلك الوعى اليقظ والقيم الجمالية، وأن تجتهد لتقترب من كنه الأشياء والعلاقات من حولك بقدر اجتهادك أن تبقى على قيد الحياة داخل تشابكات الغابة.
ظل خالد أبوبكر أكثر من خمسة عشر عاما عازفا عن النشر بعد ديوانه الأول، وإن لم ينقطع عن الشعر، حتى كان صدور ديوانه الثانى عن دار العين بالقاهرة عام 2016 بعنوان «يحمل جبلا بين كتفيه»، ويضم مجموعة من القصائد الجديدة إلى جانب نصوص الديوان الأول، العنوان يشى بما يمكن أن تتضمنه قصائد الديوان التى جاءت نوعا من دفع القبح والقسوة فى العالم المحيط واللجوء إلى مشاهد مختارة تحمل كثيرا من التراجيديا والأسى والألم، كما تعلى من معاناة الشاعر السيزيفية التى لا مفر منها، وكيف يمكن اعتبارها خلاص الشاعر الحديث.
الديوان الثالث الذى بين أيدينا، يشهد تحولا فى موقف الشاعر الجمالى والحياتى معا، فمن خلال أقسام الديوان الثلاثة «الألم جارنا اللدود» و«ملح الأرض، ملح لا يذوب» و«نهاية العالم»، نلحظ انتقال الشاعر من الإنصات العميق للغابة وأحداثها وعنفها فى ديوانيه الأولين إلى مواجهة هذا العنف بالاشتباك والإدانة فى الديوان الأخير، نلحظ غضبا وانحيازا وحكم قيمة فى قصائد الديوان وهى تمثل موقفا متقدما لشاعر كان يبحث عن آثار الغابة على جسده وروحه ويكتفى بالاندهاش أمام القانون الوحشى الذى يحكم العالم، أما القصائد التى يضمها ديوان «ومخالب إذا لزم الأمر»، فيمكن اعتبارها قصائد مقاومة بالمعنى العميق للعبارة.
فى قصيدة «تلك البقعة على الجدار» ص25 من الديوان نقرأ: «يقول جارى/ إن أرملة الناطور تبرعت بثلثى روحها/ لأجل أن تؤمّن مستقبل طفلين/ الطبيب أكد لها /أن المرء بإمكانه العيش بثلث روح/ بشرط عدم الإفراط فى الملح والبكاء/ جرامان من الملح يوميًّا/ ونوبة بكاءٍ واحدة قبل النوم بحدٍّ أقصى/ لكن ليقُل الطبيب ما يشاء/ هو لا يوزع رطلًا من الأرز/ بالتساوى على يومين/ أطفاله لا يبكون إذا داعبهم الغرباء/ وحين تمطر/ تدمع عيناه لأسباب رومانسية/ ليقُل ما يشاء إذن/ يبقى الحزن تلك البقعةَ على الجدار / كلما أعدنا الطلاء تنبُت مرة أخرى».
وفى قصيدة «سيرةٌ ذاتيةٌ لكهلٍ يحب الجرّافات ص 38»: «الطفل الذى حدَّثك والداهُ بزهوٍ ذات مرةٍ/ عن فشله فى قراءة لوحات السيارات لأنها بالعربية/سيكون هو المراهقَ الذى يتمنى لو بدا للآخرين كأمريكى متبجح،/ والفتى الذى يظن أن المُزارعين هم فى الأصل عازفو ناى يزرعون فى أوقات فراغهم/ والرجلَ الذى يطوف المدينة صباح عيد الأضحى ملقيًا بأكياس اللحم من سيارته/ للنسوة المتقاتلات على أسبقية الحضور/ والكهلَ الذى يحب الجرّافات بشدة / بعد قطّه الشيرازى بالطبع/ لأنها أمّنت له مدنًا بِلا مزارعين/ أو نسوةٍ يقتتلن على كيسٍ من اللحم المجانى».
وفى قصيدة «الخبازون دائمًاص 32» يقول: « فى نهاية اليوم/ الخبّازون دائمًا مطمئنون/ بأسوأ الأحوال/ سيخبزون أنفسهم أرغفةً / لسدِّ أفواه عيالهم«.
تيمتان يمكن الإمساك بهما فى قصائد الديوان، ربما كان يخطط لهما الشاعر أو ربما كان مشغولا بهما انشغالا على مدى زمنى طويل نسبيا مما يجعلهما بارزتان فى قصائد الديوان، التيمة الأولى هى الألم ونقده، الألم ومواجهته وتشريحه وبحث أسبابه وكيفية التخلص منه، والتيمة الثانية هى العدالة الاجتماعية المفقودة وما يمكن أن تولده فى نفس الشاعر من لحظات قصوى، تتجلى فى قصائد صارخة وقصائد إدانة وقصائد أسيانة باكية تراجيدية تنشد تلك العدالة المفقودة وتحلم بتحققها فى العالم.
مقاومة القبح، مقاومة الظلم الاجتماعى، مقاومة الطفيليات التى تضغط على أذهاننا، مقاومة القهر والأوضاع المقلوبة، أيضا، كلها مفاتيح يمكن أن نلمسها فى قصائد الديوان التى تشتبك مع الواقع المعيش وتفاصيله، وهذه العناوين العريضة للمقاومة ومعالجة القضايا الكبرى يتعامل معها الشاعر ببساطة وأسى يتسقان مع طبيعة قصيدة النثر، ومع توجهه الجمالى الذى يعتمد على الإنصات العميق لآلام الذات فى اشتباكها مع مختلف العناصر المحيطة، بحثا عما يعيد للإنسان إنسانيته المفقودة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة