تحول الإمام البخارى، مع الزمن، إلى ركيزة أساسية فى العقلية الإسلامية، حيث عمد البعض إلى تقديسه وإفراده مما أثر بالتالى على نصوص تراثية وآثار إسلامية وأفكار لآخرين.
يحدث ذلك مع أن الإمام البخارى جمع الأحاديث الصحيحة فى كتابه (الجامع الصحيح المُسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لكنه لم يستوعبها كلها، ومع ذلك كلما ذكرت جملة "حديث صحيح" فى خطبة أو كتاب أو درس دينى، ورد على الذهن اسم الإمام البخارى ومن بعده الإمام مسلم، كأنهما الوحيدان اللذان اهتما بضم الأحاديث الصحيحة، وكأن ما لم يرد عندهما فليس صحيحا.. ومن هنا نسأل: هل هناك أحاديث صحيحة ليست فى البخارى ومسلم؟
أولا: ما الحديث الشريف؟
اتفق الجميع على أن الحديث الصحيح هو كل ما قاله النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، أى كل ما ورد عنه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو صفة خلقية أو سيرة وردت عنه، سواء كانت قبل البعثة أم بعدها.
ما مصطلحات الحديث؟
هناك مجموعة من الألفاظ التى نجدها فى علم الحديث منها (الخبر، والأثر، والسُّنة، والمتن، والسند، والإسناد، والمُسنَد، والمُسنِد، والمحدِّث، والحافظ، والحجة، والحاكم) ولكل منها معنى:الخبر: إن كان الحديث هو ما ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم، فإن الخبر هو ما جاء عن غيره، وهناك من يرى أن الخبر أعم من الحديث، لشموله ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن غيره، أما الأثر فهو الحديث الموقوف على الصحابى، والسنة هى الحديث الخاص بقوله صلى الله عليه وسلم وفِعْله، والسنة أعم، والمتن هو غاية ما ينتهى إليه السند من الكلام، والسند هو الطريق الموصل إلى المتن، أى: الرواة الموصلون إليه، والإسناد هو رفْع الحديث لقائله، وقيل: إنه بمعنى السند، والمسنَد ما اتَّصَل سنده من أوَّله إلى منتهاه، والمسنِد: من يروى الحديث بإسناده، والمحدِّث: من يتحمَّل الحديثَ، ويعتنى به رواية ودراية، والحافظ هو من يحفظ مائة ألف حديث متنًا وإسنادًا ولو بطرق متعددة، والحجة: من أحاط بثلاثمائة ألف حديث، والحاكم: من أحاط بالسنة.
وما أنواع الأحاديث؟
قسم أهل العلم الأحاديث إلى:
أولا: الحديث النبوى المقبول:
ينقسم إلى أربعة أقسام، الحديث الصحيح لذاته، وهو الحديث الذى اتَّصل سنده بنقل العدل التام الضابط عن مثله، من أوّل السند إلى آخره، وله شرطان أن يخلو من الشذوذ ومن العلة.
ومنه الحديث الصحيح لغيره، وهو الحديث الذى اجتمع فيه شروط الحديث الحسن لذاته، فرُواته أقل ضبطاً من رواة الحديث الصحيح لذاته، كذلك الحديث الحسن لذاته، وهو الحديث الذى اجتمع فيه شروط الحديث الصحيح لذاته لكن راويه خف ضبطه، ولا يوجد ما يجبر ذلك القصور.
وهناك الحديث الحسن لغيره، وهو الحديث الضعيف الذى انجبر ضعفهُ بتعدُّد طرق روايته حتى ترجَّح قبوله.
ثانيا: الحديث النبوى الضعيف
ينقسم الحديث الضعيف إلى أقسامٍ كثيرة منها، الحديث الضعيف بسبب فَقد العدالة والضبط، الحديث الضعيف بسبب فقد الاتصال، الحديث الضعيف بسبب وجود الشذوذ أو العلة، الحديث الموضوع والمختلق والمكذوب على النبى صلى الله عليه وسلم، ويعتبر أسوأ أنواع الحديث الضعيف.
ثالثا: أنواع الحديث النبوى من حيث السند:
ينقسم الحديث من حيث اعتبار السند إلى قسمين: الحديث المتصل السند، ومنه الحديث المتواتر: وهو الحديث الذى رواه جماعةٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب فى العادة، وأسندوه إلى شىءٍ محسوسٍ، وهو ينقسم إلى الحديث متواتر لفظاً ومعنى، وهو ما اتّفق الرواة على لفظه ومعناه، وحديث متواتر معنىً فقط: وهو ما اتّفق فيه الرواة على معنىً كلّى، وانفرد كل راوى بلفظه الخاص.
وهناك حديث الآحاد، وهو ما سِوى المتواتر، وينقسم باعتبار طرقه إلى ثلاثةِ أقسام، حديث الآحاد المشهور، ما رواه ثلاثة رواةٍ فأكثر، ولم يبلغ حد التواتر، وحديث الآحاد العزيز: وهو ما رواه راويان فقط، وحديث الآحاد الغريب، ما رواه راوياً واحداً فقط.
وهناك الحديث المنقطع السند، وينقسم إلى عدّة أقسام هي: الحديث المرسل: وهو ما رفعه التابعى إلى النّبى صلى الله عليه وسلم، والحديث المنقطع، وهو الحديث الذى لم يتّصل إسناده، سواء سقط الراوى من أول الإسناد، أو من وسط الإسناد، أو من آخره، والحديث المعضَل، وهو الحديث الذى سقط من سنده راويان فأكثر، والحديث المُعلَّق، وهو الحديث المأخوذ من بداية إسناده راوٍ واحدٍ أو أكثر.
رابعا: أنواع أخرى من الحديث النبوى الحديث باعتبار قائله:
ينقسم الحديث من حيث رفعه إلى الرسول إلى أقسامٍ منها: الحديث المرفوع، وهو الذى رفعه الصحابى للرسول فيقول: (سمعت رسول الله)، أو (قال رسول الله)، والحديث الموقوف، وهو الذى يقف سنده عند الصحابى فقط، ولم يرفعه الصحابى إلى النبى صلى الله عليه وسلم، والحديث المسند، وهو ما اتصل سنده إلى الرسول، والحديث المقطوع، وهو الحديث الذى أُضيف إلى التابعى أو من دونه من قولٍ أو فعلٍ.
ما معنى الحديث الصحيح؟
عرف ابن الصلاح الحديث الصحيح وفى "مقدمته" والذى يعد من أهم كتب الحديث بأنه "الحديث المسند الذى يتصل إسناده بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، حتى ينتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو إلى منتهاه من صحابى، أو من دونه، ولا يكون شاذّاً ولا معلّلاً بعلّةٍ قادحة".
والأحاديث الصحيحة توجب العمل بها باتفاق الأئمة، فقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث عن رسول الله هى ما رواه أهل المدينة، ثم أهل البصرة، ثم أهل الشام.
ما شروط جمع الحديث الصحيح؟
يعتبر الفقهاء، ومن خلفهم الناس، أن ما فعله البخارى فى صحيحه، هو المنهج، مع أن البخارى لم يصرح بشروطه، لكنها يمكن أن توجز فى:
الثقة والاشتهار فى راوى الحديث، شرط المعاصرة والسماع، فاشترط أن يكون راوى الحديث معاصراً لمن يحدث عنه، بالإضافة إلى شرط السماع منه بقوله عند رواية الحديث حدثنى أو سمعت منه أو أخبرنى أو غير ذلك من الألفاظ التى تفيد السماع المباشر.
سنن أبى داود
أما كتب الصحاح فهى:
صحيح البخارى:
تأليف محمد بن إسماعيل البخاري(194-156هـ)، وكان يقوم بجمع أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، حتى جمع مايزيد عن 600000 ألف حديث، انتقى منها كتابه الصحيح الذى لم يتجاوز 7 آلاف حديث.
كتاب صحيح مسلم
جمعه مسلم بن الحجاج القشرى النيسابوري، ويُكنى بأبو الحسن يعتبر الإمام مسلم أحد أئمة حفاظ الحديث، وهو من الأعلام المُحدثين.
ولد الإمام مسلم فى نيسابور، وكان ذلك فى عام 206هـ، وتوفى بها سنة عام 261ه، وكتابه الصحيح صنفه استغرق معه خمسة عشر سنة فى جمعه، وقد اتبع فى تأسيس كتابه ما اتبعه البخارى.
كتاب سنن أبى داود
تأليف سليمان بن الأشعث السجستاني، ويُكنى بأبى داود، وهو أحد حفاظ لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد أبى داود عام 202هـ، وتوفى فى عام 275هـ.
وقد كان تلميذا للبخاري، استفاد منه الكثير، وسلك فى العلم مسلك معلمه، كان يشبه الإمام أحمد بن حنبل فى هديه، وسماته.
جمع أبو داود فى كتابه هذا الكثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث بلغ مجموع ما جمع من الأحاديث 5274 حديثاً، حيث صنف كتابه السنن وهذبه وانتقاه من بين خمسمائة آلاف حديث.
وأما عن مدى ضعف وصحه أحاديثه، فقد قال أبو داود فى ذلك: "ذكرت فيه الصحيح، ومايشابهه، ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته".
كتاب الجامع للترمذى
تأليف محمد بن عيسى بن سورة الترمذى، يُكنى بأ بوعيسى، ولد عام 209هــ وتوفى عام 279هـ.
كان من تلاميذ الإمام البخارى أيضا، وفى كتابه الجامع قام بجمع أحاديث الأحكام، لكنه قام بتمييز الحديث الصحيح من الضعيف، وكذلك ذكر مذاهب الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار.
وقال عنه الشيخ أحمد شاكر فى مقدمة كتابه تحقيق سنن الترمذى، أن كتابه هذا يتميز بثلاث مميزات لا نجدها فى أى من الكتب الستة، وهي: أنه قام باختصار طرق الحديث اختصاراً لطيفاً. كما قام فى كتابه هذا بذكر اختلاف الفقهاء، وقولهم فى المسائل الفقهية المختلفة، واهتم بذكر الأحاديث المختلفة فى هذه المسائل. كما اهتم فى كتابه بتعليل الحديث وبشكلٍ مفصل، فأصبح كتابه هذا كتاب عملى فى قواعد علم الحديث.
سنن النسائى
تأليف أحمد بن شعيب النسائي، ولد فى عام 215 هـ فى بلدة نساء، وهى بلدة مشهورة فى خرسان، وتوفى فى فلسطين بالرملة عام 303هـ.
وقال الإمام السيوطى "كتاب السنن للنسائى أقل الكتب بعد الصحيحين من الأحاديث الضعيفة، وأقل فى الرجال المجروحين"، حيث سار الإمام النسائى على طريقة علمية دقيقة، فقد جمع بين الفقه و الإسناد، وقام بترتيب الأحاديث على شكل أبواب، وصنف لها العناوين، وجمع الأحاديث فى موطن واحد والتى تتميز بوحدة السند.
كتاب سنن ابن ماجه
تأليف محمد بن يزيد ين ماجه الربعى القزوينى، حافظ كبير ومفسر، ولد فى عام 209هـ، وتوفى عام 273هـ، ويؤكد العلماء أن فى كتابه أحاديث ضعيفه ومنكره، ومن هذه الأحاديث يوجد عدد 3200 حديث أخرجها مؤلفين الكتب الخمسة، وبقى أحاديث بعدد 1339، وهى أحاديث زائدة لا توجد فى الكتب الخمسة.
هل الأحاديث الصحيحة عند البخارى ومسلم فقط؟
الكتب التراثية كانت تعرف جيدا أن الصحيح من الحديث ليس قاصرا على صحيحى البخارى ومسلم، فيقول ابن الصلاح فى مقدمته: لم يستوعبا الصحيح فى صحيحيهما ولا التزما ذلك، فقد روينا عن البخارى أنه قال: ما أدخلت فى كتابى الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لملال الطول. وروينا عن مسلم أنه قال: ليس كل شيء عندى صحيح وضعته ههنا يعنى فى كتابه الصحيح، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه.
قلت: أراد والله أعلم أنه لم يضع فى كتابه إلا الأحاديث التى وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها فى بعضها عند بعضهم.
سنن الترمذى
كما أكد النووى ذلك فى "مقدمته على شرح صحيح مسلم" فيقول "لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح، كما يقصد المصنف فى الفقه جمع جملة من مسائله، لا أنه يحصر جميع مسائله، لكنهما إذا كان الحديث الذى تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده فى الظاهر أصلا فى بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه، فالظاهر من حالها أنهما اطلعا فيه على علة، إن كانا روياه، ويحتمل أنهما تركاه نسيانا، أو إيثارا لترك الإطالة، أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده، أو لغير ذلك.
وفى كتاب "مغنى المريد الجامع لشروح كتاب التوحيد " لـ محمد بن عبد الوهاب يقول "نحن لا ننكر أن هناك أحاديث لم يذكرها البخارى ومسلم، لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع"
كما قال ابن حجر فى النكت على كتاب ابن الصلاح "ذكر ابو جعفر محمد بن الحسين فى كتاب التمييز له عن شعبة و الثورى و يحيى بن سعيد القطان و ابن المهدى و أحمد بن حنبل و غيرهم أن جملة الأحاديث المسندة عن النبى (ص) أربعة آلاف و أربعمائة حديث وقد حاول الحاكم قدر جهده جمع الحديث الصحيح الذى فات البخارى ومسلم فلم يجمع إلا أقل من ألف حديث صحيح كما ذكر ابن حجر. وبالتالى رجعنا إلى رقم الـ4400 حديث صحيح.
وفى النهاية
بعد الذى ذكرناه، صرنا نعرف أن صحيح البخارى كان محظوظا لأسباب منها الأولوية فى الجمع، كذلك لأن الذين جمعوا الأحاديث بعده كان معظمهم تلاميذه المباشرين، فجاءوا خلفه.
كما أن العقلية العربية التى تميل إلى الإقصاء والإبعاد تعاملت معهم كأنهم لم يجمعوا أحاديث صحيحة، ومن هنا ظلم المفسرون والفقهاء كتب الأسانيد الأخرى عندما أنكروها لصالح البخارى ومسلم، حتى صار البعض يظن أن كتب الأحاديث هذه "غير صحيحة" وغير ملتزمة، وبالتالى ليس لها شعبية.