انقضت سنتان كاملتان، واليوم تبدأ سَنة جديدة فى جَولة المُقاطعة التى بدأتها دول الرباعى العربى «مصر والسعودية والإمارات والبحرين» مع إمارة قطر، فجر الخامس من يونيو 2017، ويبدو أن مَداها سيطول، ومع اتّساع حيِّز الجفاء ليُلامس حدود القطيعة، تتعمّق ورطة الإمارة الصغيرة، التى سعت للعب دورٍ أكبر ممّا تُتيحه لها الجغرافيا والثقل الإقليمى، فخسرت المساحة التى ضمنتها لها الأُخوَّة ودائرة الانتماء العربى، وأصبحت إمارة مارقة، تقبض يدُها على جمرةٍ مُلتهبة تتّقد من غضب الجيران المُتصاعد، ويقبض على يدِها الأخرى فَكَّانِ شرسان، تتوزَّع عليهما أنياب الأتراك والفُرس وميليشيات الإرهاب السارحة فى المنطقة.
بدأت محنة قطر من محطّة الاستقلال عن بريطانيا وإلغاء معاهدة الحماية المُوقَّعة فى العام 1916، وهو القرار الذى أعلنه ولىّ العهد آنذاك، خليفة بن حمد آل ثانى، فى سبتمبر 1971. وقتها وجدت الإمارة الصغيرة، التى قضت عقودًا رهن التبعية المُباشرة، نفسها أمام هيكلٍ سياسىّ وتنفيذىّ مُستقلٍ للمرّة الأولى، تُغذّيه وَفرة مالية وفوائض ضخمة، مُتولِّدة عن عوائد النفط والغاز، مُقابل محدودية السكَّان والنفقات، وهذا السياق المُتخم بالرفاهية غير المُعتادة، ولَّد فائض قوّة لدى بطون أسرة «آل ثانى» الحاكمة، جرت ترجمته بادئ الأمر فى صورة صراعات داخلية مُحتدمة، استهلكت مدىً يتجاوز عقدين من الزمن، فى ترتيب البيت، والقبض على خيوط السلطة والثروة، مرَّة عبر تَوسعة الحكومة وزيادة المناصب، ومرّات عبر تبديل الوجوه والمسؤولين، حتى وصلت الصراعات ذروتها بانفجار البيت الحاكم!
انقلب خليفة بن حمد على ابن عمّه الشيخ أحمد بن على آل ثانى، ورغم انطلاقه من رؤية تبدو منطقيّة بأحقيَّته فى عرش الإمارة، فإنه كان يُدشِّن، دون علمٍ أو رغبة بالتأكيد، لمذهبٍ مُنحرفٍ فى إدارة قطر، دفع هو نفسه كُلفةً باهظةً له فى وقت لاحق. فضلاً عن أن المَسلك الذى اعتمده لتصفية صراعات القصر، لم يكن مُنسجمًا مع تطلُّعاته لتأسيس دولة حديثة تتمتَّع ببِنية مُؤسَّسية وآليات عمل مُنضبطة.. ما فعله «خليفة» كان بمثابة العَصا الأولى فى عَجَلةٍ تبدأ دورانها حديثًا.
ما وصلت إليه قطر بعد عقودٍ من الانقلاب الأوّل، كان تأكيدًا لمحنة الإمارة التى أدمنت صراعات القصر، واعتمدت مبدأ الغلبة فى الوصول للسلطة وإدارة بطاقات اللعب، حتى لو تحقَّقت الغَلَبة بالقفز على ركائز الدولة نفسها، أو المُقامرة بها على طاولات الرهان التى تديرها قوىً أخرى.. ما يحدث الآن أن قطر مُنغمسة فى صراعات القصر حتى أُذنيها، بينما يلتصق وَحل القوى الخارجية بدنها، ويشلّ حركتها تقريبًا!
المحطّة الأولى لصراعات القصر لم تبدأ مع انقلاب 1972، بل سبقته بربع القرن تقريبًا. بدأ الأمر فى الأربعينيّات وقتما عَهَد أمير قطر الأسبق، عبد الله بن قاسم آل ثانى، بولاية العهد لابنه «حمد»، لكن الابن توفّى فى 1947، فتنازل الأمير عن الحكم لابنه «على»، وعيّن «خليفة» نجل «حمد» وليًّا للعهد، واشترط على الأمير الجديد أن ينتقل الحكم لابن أخيه، لكنّ «على» نقل السلطة لابنه «أحمد»، مع إبقاء «خليفة» وليًّا للعهد، وكانت تلك النقطة مُنطلق الأخير فى انقلابه الأبيض، إذ رأى أنه يستعيد حقًّا اغتصبه أبناء عُمومته!
سارت أمور خليفة بوتيرةٍ هادئة، بعدما أنجز انقلابه ورتَّب بيت آل ثانى وفق هَواه. فبدأ خطّة لهيكلة الدولة وضبط مُؤسَّساتها، شملت ضبط قطاع النفط وتوقيع اتفاقات جديدة وحوكمة المالية العامة وموازنة الإمارة، وزيادة هيكل الحكومة، وتعيين ابنه «حمد» وليًّا للعهد ورئيسًا للوزراء، وتصفية الخصومة مع القبائل والعواقل البارزة فى الإمارة، وتلك تحديدًا كانت نقطة تحوّل فى مسار الصراعات والتشابكات العديدة داخل قطر، إذ اشتملت على عقد صفقة مع عشيرة «آل مسند»، تزوّج بموجبها ولىّ العهد حمد بن خليفة، الشيخة موزة آل مسند، لتكون الإمارة على موعدٍ آخر مع انفجار ثانٍ داخل أسرة «آل ثانى».
كان «خليفة» مُقتنعًا بمحدوديّة قطر، حجمًا وأثرًا، وراضيًا بإمارته الصغيرة كما هى، فلم يسع إلى لعب دورٍ أكبر ممّا تستطيع الدوحة، أو ممّا يتوفّر لديها من إمكانات، لكن تلك القناعة تبدَّدت مع الورثة الذين خلفوه على العرش، أو بالأحرى كانت هناك قناعة مُغايرة تتشكَّل فى كواليس القصر، قادت فى النهاية إلى طرد «خليفة» من الحكم، ووضع قطر على مُنحدرٍ أَملس ينتهى إلى بُحيرة من الطين والتماسيح!
كان قرار الرباعى العربى بمُقاطعة قطر دبلوماسيًّا وسياسيًّا، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، واتّخاذ تدابير مُشدَّدة بشأن انتقال المواطنين وإقامتهم بين الدول الخمس، خُطوة أخيرة على طريق طويل، تعدَّدت فيه محاولات استعادة قطر من رحلتها السريعة على المنحدر، لكن الإمارة الصغيرة جدًّا، والموهومة بإمكانية التأثير والتعملُق خرقًا لكل اشتراطات الواقع والتاريخ، وللتوازنات الدولية والحسابات الجيوسياسيّة، أصرَّت على الانطلاق وحدها فى طريقٍ مُظلمٍ، يفوق قدرتها على السير أو تجاوز العقبات، فخرجت من محيطها العربى خروجًا خشنًا، تطوَّرت تداعياته إلى انتهاكٍ لضوابط الجوار والقانون الدولى والتزامات الحكومات تجاه أمن العالم ومصالحه العليا، حتى أصبحت الدويلة الصغيرة مُجرمًا كبيرًا، وإمارةً مَارقةً فى وَرطة تفوق حجمها!.