قطر دُويلةٌ حبيسةُ حُكَّامها، فرغم مساحتها المحدودة، إلا أن نفوس أمرائها أكثر ضيقًا ومحدوديّة، الإمارة التى تتجاوز 11 ألف كيلو متر بقليل «مساحة سوهاج تقريبًا التى يقطنها 5 ملايين يُمثّلون 5% من سُكّان مصر وضعف قاطنى قطر و17 ضعف مواطنيها» تبدو مُكبَّلةً بمجال حيوىّ بالغ الانغلاق، وتطلُّعات شخصية لدى «تنظيم الحمدين» والفرع المُهيمن على السلطة من أسرة «آل ثانى»، وتحت ضغط الشدّ والجذب المُتولِّدين عن تلك المعادلة، تنسحق الدويلة الصغيرة، خاسرةً ما تملكه، وعاجزةً عن اقتناص ما يفوق قدراتها!
دخلت الدوحة فى زُمرة المُخطَّط التركى والإيرانى للتوسُّع فى المحيط العربى، طمعًا فى تحصيل فوائد سياسية واستراتيجية تُكافئ الوفرة المالية، ولأنّ الإمارة الصغيرة لا تملك تاريخًا عريضًا ولا خبرات واسعة فى الاشتباك مع القوى الإقليمية والدولية، غاب عن وعى من يُخطّطون تحرُّكاتها أن الثقل السياسى لا يصنعه المال فقط، وإنما يتطلَّب توفُّر اشتراطات حضارية ورصيدٍ قديمٍ من الحضور والتأثير، بدأ الأمر بالنسبة لها كلُعبة طفوليّة للقفز على الأحبال المشدودة بطول المنطقة، وتطوَّر إلى الوقوع فى بُؤرةٍ ساخنة، حملتها بالضرورة على فريق وأبعدتها عن الآخر، لكنّها حينما اكتشفت الورطة التى أوقعت نفسها فيها، تحوَّل الأمر لديها إلى وجهٍ من وجوه المُكابرة والعناد، مُتخيّلةً للمرة الثانية أن الدول الكُبرى تُقاس فقط بإصرارها على مواقفها، حتى لو كانت خاطئة!
كان يُمكن تدارك الأمر فى محطّة اشتعاله الأولى، لو كانت قطر تملك من الحصافة ما يسمح لها بقراءة المشهد الإقليمى فى تشابكاته المُعقَّدة، وحرارته الآخذة فى التنامى، لكن إدارة الأمور بالإرادة الفردية لم تترك مُتسّعًا لاختمار حالة الوعى بالسياق المُحتدم، أو تربية رؤية ناضجة للتعاطى معه. هكذا سارت الدوحة فى رحلتها المُتقافزة على وترٍ مشدود، طرفه معقود فى ساق المنطقة العربية، ونهايته مُوزَّعة بين أنقرة وطهران، تبادل الفريقان لُعبة الشدّ والجذب وهما يعيان تمامًا مجال الحركة وحدود الخُصومة، لكن الإمارة الصغيرة لم تكن شريكًا فى التهدئة أو التصعيد، إذ انحصر دورها فى التقافز فوق الخيط الرفيع، مُتوهّمةً أن توازنات القوى التى تُبقى عليه مشدودًا، تعنى بالدرجة الأولى أنّها تُنجز اللعبة بطريقة آمنة، وأنّ أحدًا من الفريقين لم يكتشف أنها تلعب على الجانبين فى الوقت نفسه!
فاض الكيل بالدول العربية التى احتملت مراهقة قطر ونزواتها طويلاً. يعود الأمر إلى ولاية حمد بن خليفة فى يونيو 1995، وفى أفضل التصوُّرات يرتبط بالإزاحة الناعمة التى حملت «تميم» إلى العرش فى صيف 2013. المهمّ أنه بحلول يونيو 2017 كانت قُدرة المنطقة على الاحتمال قد أفرغت مخزونها كاملاً، بعد اثنتين وعشرين سنة من ألاعيب الأب، أو أربع سنوات من رُعونة الابن، وقتها تخيَّلت القوى الإقليمية أن إظهار قدرٍ من الخشونة قد يردّ الإمارة الصغيرة عن مناوراتها الصبيانية، فاتُّخذ قرار المُقاطعة كدواءٍ مُرٍّ، يُمثّل المحاولة الأخيرة لعلاج العطب الذى سكن هيكل الإدارة السياسية فى الدوحة، على أمل استعادة الشقيقة الصغيرة قبل أن تنسحق تمامًا تحت أحذية الغرباء الذين تتوالى قوافلهم مُدجَّجة بمُخطَّطات توسُّعية ونوايا سوداء!
مع إعلان قرار المقاطعة فجر الخامس من يونيو 2017، لم تستطع الدوحة التعاطى معه إلا من موقعها الذى أدمنته، كدُويلةٍ تُعبّئ رئتيها بهواء يفوق مساحة جسدها، وتلهو تحت أقدام العابرين كطفلٍ يشعر أنه فى مأمنٍ ما دام الكبار واعين بضآلته، لذا لم تُبادر الإمارة باتِّخاذ أيّة خطوة، أو التحرُّك إيجابيًّا باتّجاه نزع فتيل الأزمة، بل على العكس أغرتها اللُعبة بمُناطحة كبار العائلة، طمعًا فى إثبات الوجود، على أمل أن ينتهى الأمر على طاولة الأُسرة آخر اليوم، وفق هذا المنطق ناطحت «الدوحة» الرباعى العربى، وتواترت تصريحات مسؤوليها حاملةً قدرًا من التحدّى، وأعدَّ «تميم» خطابًا مشحونًا للردّ على موقف القوى الإقليمية الجاد، وقتها تسرَّب محتوى الخطاب إلى الكويت، وفى ضوء ما يشتمل عليه من رسائل كان يُمكن أن ترفع حرارة المنطقة إلى درجة الاحتراق، بادر أميرُها بالاتصال بـ«قصر الوجبة»، ثمّ مُخاطبة الرباعى العربى، وطلب الوساطة بغرض حَلحَلة الأزمة، والوصول إلى صيغة توافق يُمكن أن تكون مُنطلقًا لاحتواء الشِّقاق المُطلّ برأسه على خريطة المنطقة.
يُمكن القول إن الدوحة تلقَّت الأمر فى بدايته بقدرٍ من الصدمة، وبفعل الارتباك الذى أحدثه قرار المُقاطعة، اختلَّت عجلة القيادة فى يَد «تميم»، ولم يكن مُمكنًا أن ينزل عن وَهم الدولة الكبيرة والمؤثرة الذى يملأ ذهنه ويملك عليه مجامع روحه، ليتراجع فى الأيام التالية عن الموقف الذى تورَّط فيه بفعل الحماسة والنَّزَق، اختار الأمير الشاب أن يسير الطريق إلى آخرها، خاصّة أن الموجة الأولى للموقف العربى تسبَّبت فى خسائر اقتصادية وسياسية قاسية للإمارة، إلى الدرجة التى لم يكن مُتوقَّعًا معها أن يتطوَّر الأمر إلى ما هو أفدح، أو هكذا تصوَّر مُخطِّطو السياسة القطرية، فكان قرارهم بالتمسُّك بمواقفهم المُتسبِّبة فى الأزمة، وشجَّعهم على ذلك مُسارعة تركيا وإيران لاستغلال الموقف، ووضع قدمٍ جديدة فى المنطقة.
فى الوقت الحالى، تبدو الدوحة فى مأزقٍ ضاغط، تحالفاتها الطارئة مع أنقرة وطهران لم تُعوِّضها عن خسارة المحيط العربى، وفكرة العودة إلى حظيرة الأشقّاء تفرض عليها قدرًا من التراجع المصحوب بالندم والاعتذار، وبين الخيارين تقف الإمارة الصغيرة فى رُكنٍ مُظلمٍ لا فِكاكَ منه، يتجمَّد الوقت فى قدميها، وتتكفَّل الأيام بتعميق الورطة، وغَرس ساقيها فى الوحل إلى مدىً أبعد!