بعد أن انتهت حرب أكتوبر المجيدة فى أكتوبر 73 وحقق جيشنا الباسل انتصاره الساحق على إسرائيل و تحطيم أسطورة الجيش الذى لا يقهر..وعادت الحياه الى طبيعتها فى مصر ..وعدنا الى المدرسة الابتدائية ..بدأنا فى ترديد الأناشيد والأغانى الوطنية التى تمجد فى الحرب وأبطالها.. كان الوحيد من بين أبطال ملحمة العبور الذى تم تأليف أغنية خاصة به ورحنا نرددها بلحن المارش العسكرى ليل نهار هو " محمد أفندى رفع العلم..محمد أفندى ..رفعنا العلم".
ولم أعرف طوال أكثر من 10 سنوات من هو "محمد أفندى" الذى تغنينا به فخرا واعتزارا وتكريما ..محمد أفندى أول من رفع العلم فوق أرض سيناء بعد أول فوج عبر قناة السويس مباشرة..وظل السؤال يسكن الذاكرة والأغنية يتردد صداها بين الحين والآحر فى الوجدان..فالحرب لم يكن مر عليه زمن طويل ..وفى بدايات اشتغالى بمهنة الصحافة وتحديدا فى صحيفة " صوت العرب" التى كان يراس تحريرها أستاذى الراحل عبد العظيم مناف..طرت فرحا عندما عرفت أن محمد أفندى هو شخص حقيقى يعيش بيننا واسمه الحقيقى محمد العباسى ..فلاح مصرى من قرية القرين مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية.
الفضول الصحفى والرغبة فى المغامرة كانت وراء البحث عنه بعد 14 عاما من الحرب وتحديدا فى سبتمبر 87 لاجراء حوارات صحفية مع مجموعة من أبطال أكتوبر وكان نصيبى لقاء محمد العباسى وكانت شهرته فى القرية محمد البطل وأيضا اجراء حوار مع صائد الدبابات محمد عبد العاطى.
وسائل الاتصال الحديثة وحتى التليفون الأرضى لم تكن متوفرة وشائعة مثل هذه الأيام..فقررت السفر مباشرة الى منيا القمح ومن هناك أوتوبيس ينتمى الى جيل الخمسينات بكل ما تعنيه الكلمة حتى أبو حماد وبعدها " سيارة بوكس" الى قرية القرين..عند مدخل القرية سألت عن " محمد العباسى"..كان الرد فورا من أحد ابناء القرية " تقصد محمدالبطل"..اصطحبنى حتى منزله الذى لم يبعد كثيرا عن مدخل القرية. لم يطل الانتظار طويلا..فقد كان البطل مقبلا علينا..رجل فى بداية الاربعينات يرتدى الجلباب الفلاحى الشهير ويمتطى حماره قادما من حقله قبل آذان المغرب بقليل كعادة كل الفلاحين. قدمت له نفسى فابتسم مرحبا واصطحبنى الى منزله مباشرة. منزل بسيط تتوسط ساحته نخلة بلح ضخمة قدم لى طبقا منها الى جانب كوب من الشاى. وبدأ يحكى لى عن ذكريات الحرب وقصة رفع العلم ثم الانتصار...والوعود التى تلقاها من شخصيات مصرية وعربية كبيرة ..منها فيلا بالهرم ومكافات مالية ضخمة..وظلت مجرد وعودا حتى وفاته.
حوارى مع البطل محمد العباسى كان من الحوارات المهمة التى أجريتها فى مشوارى الصحفى ، ويومها أدركت أن الفداء والتضحية والشرف والبطولة من أجل الوطن لا يقابله أو يضاهيه شيئ مهما كانت الوعود وما حققه ابطال أكتوبر لم ينتظروا منه أى مقابل. والعباسى مثله مثل عشرات بل آلاف الابطال-منهم من استشهد ومنهم من ينتظر- أدى ما عليه من فريضة للوطن ثم عاد لحياته الطبيعية برضاء نفسى.
اليوم سمعت نبأ وفاته بعد ان بلغ من العمر 73 عاما فهو من مواليد 21 فبراير 1947 .حصل على الابتدائية ثم التحق بالخدمة العسكرية فى 1 يونيو 1967. وكان يعمل قبل خروجه للمعاش فى وظيفة كاتب بالوحدة الصحية بالقرين.
فى حواره الأخير للزميل محمد الأحمدى لموقع " انفراد" الذى كنت أترأس تحريره حكى له عن مشاركته فى حرب الاستنزاف حيث تم تكليفه من قائد الكتيبة ومعه 11 جنديا فى دورية ليلا أن نخطف جنديا إسرائيليا وكان لدينا 2 أربي جى وسلاح ونفذنا العملية فى الساعة الثانية ظهرا بنجاح وأسرنا 3 جنود إسرائيليين وعبرنا بهم القناة وكانت فرحة عارمة فى أوساط الجيش وقام الجيش الإسرائيلى بإنزال الطيران صباحا والضرب ليلا ولم يستطيعوا أن يحددوا مخبأ الجنود المصريين، يوم الجمعة 5 أكتوبر 1973 كانت الخطبة من التوجيه المعنوى للقوات المسلحة عن الغزوات، حيث تم إلقاء أوامر سرية جدا للجنود وجاءت الأوامر بأن غدا السبت 6 أكتوبر 1973 يوم إفطار، وتم توزيع وجبات إفطار علينا ووجبة تعيين يومين والتجهيز للحرب.. ثم كان العبور ..وعبر البطل ولم يصدق اللحظة التى طال انتظارها فطلب من قائده أن يمنحه العلم ليرفعه على أعلى نقطة فى الساتر الترابى ورغم تحذيرات القائد ..يندفع البطل محمد العباسى ليزرع علم مصر فوق أرض سيناء المحررة دون مبالاه لرصاصات العدو
مات محمد العباسى البطل وكانت له أمنية واحدة فقط ..أن يذهب لحج بيت الله الحرام.
تحية الى روح محمد البطل وتحية الى ارواح شهداء جيشنا العظيم