فقط يكفى أن ينتشر بوست مكتوب على عجل يقول إن جمهور كرة القدم الحالى ليس هو جمهور الكرة المعروف، وأن هؤلاء الذين حضروا المباريات ليسوا هم السابقين، ويذهب من المقدمات للنتائج ليرى أن تغير الجمهور كان أحد أسباب الهزيمة والخروج من كأس الأمم الأفريقية، انتشر مثل هذا الكلام بلا حاجة إلى توثيق أو أبحاث، وإذا أحس محلل السوشيال بأنه مزنوق، يقول: «أجمع الخبراء وجمهرة متابعى الكرة والتنمية البشرية أن الجمهور اختلف، انتشرت نظريات وتحليلات، طبقا لزاوية جلوس المحلل الافتراضى، وسط جمهور افتراضى يناقشون قضايا افتراضية، وينسبون ما يقولونه إلى خبراء افتراضيين، ولا أحد يراجع أو ينتظر توثيقا، وتنتشر هذه النظريات بشكل واسع ولا أحد يعرف لها رأس من قدمين، البعض يرجع التغيير لأسعار التذاكر، وطريقة الحجز الإلكترونى، بالرغم من أن الأسعار ارتفعت بنفس نسبة ارتفاع أسعار الطعام والشراب والنقل ما بعد التعويم.
أما أن جمهور كرة القدم تغير، فهذا صحيح، عندنا وفى العالم كله، ليس بسبب أسعار التذاكر، وطريقة الحجز، لكن لأن اللعبة نفسها لم تعد اللعبة البريئة، التى تقوم على المنافسة بين لاعبين هواة بسطاء لا يحصلون على أموال كثيرة، وربما كانوا ينفقون على اللعبة، ويضيع مستقبل بعضهم، من أجل أن يلعب، كان اللاعبون بسطاء هواة، والجمهور بسيط نراه فى أرشيف الصور والفيديوهات، ونحن إليه كما نحن لحياتنا البسيطة الأقل تعقيدا.
كان جمهور كرة القدم مضروبا بالتشجيع، يسافر خلف فريقه إلى آخر العالم، يضم المشجع التاجر الكبير، أو الموظف أو الشاب الذى يتعصب لفريقه بتعصب وأحيانا بتطرف، لم يقل أحد أن جمهور الكرة كان كله من الفقراء جمهور كانت أدواته الصفارة والطبلة والرق والرقص والملابس الملونة، جمهور يصعب فيه التفرقة بين الفقراء والأغنياء، ثم إن الجمهور لم يكن هو عامل الربح والخسارة، ومرات كثيرة كان الجمهور يتحمس ويخسر فريقه، والعكس.
هؤلاء هم من نتذكرهم كنوع من «الحنين» مثلما نتذكر جمهور أم كلثوم وحليم وحفلات الربيع وطلاب الجامعة والموظفين والتلامذة ورواد المقاهى ومجتمع البلكونات ونواصى الشوارع، مجتمع كامل بسيط بلا ملايين، حتى الألتراس والشماريخ ظواهر حديثة دخلت عالم الكرة قبل عقد ونصف على الأكثر، ولم تكن هى الظاهرة الأساسية للمشجعين، وتحلو الفرجة بين جماعات لهذا يترك الناس بيوتهم لينضموا إلى جمهور متفرجين على المقاهى وتطورت بعضها إلى «الكافيهات» التى لم تكن موجودة حتى زمن قريب، وفى مراكز الشباب والنوادى، اللعبة جماعية والتشجيع جماعى، والجمهور ليس هو فقط الآلاف فى المدرجات وإنما الملايين أمام الشاشات.
تغير الجمهور، لأن اللعبة تغيرت، وانقلبت وإن ظلت الأكثر شعبية، والاحتراف غيرها بشكل تام، لاعب بمئات الملايين، واللاعب يحرص على إرضاء الملايين وليس فقط الجمهور، اللاعب وراءه أجهزة كرة، ومديرين، وكلاء، حملات وتسويق ومصانع فانلات وكوتشيتات وأحذية ومشروبات إعلانات، كل لاعب محترف هو جزء من آلة تنتج ملايين يوميا وتبحث عن ملايين، عمولات وسوق سوداء وسمسرة وتربيطات تحتية، واتحادات الكرة تنتخب بعمليات معقدة من التربيطات وأحيانا العمولات وهى انتخابات ديمقراطية شكلا، لكنها جزء من تقاطعات وشبكات مالية، وتجارية، ومصالح الكرة أصبحت لعبة تتداخل فيها العولمة والمليارات، وحتى حماس الجمهور تستغله شركات تسويق التيشرتات والأحذية، والمشروبات، فيدفع أرقاما مضاعفة ثمنا لحماسه، ولا يقتصر الأمر على ثمن التذكرة، وهو أمر لا ينتبه إليه خبراء الأحكام النهائية، ومازال الملف مفتوحا.