لم أحسب نفسى يومًا على الوسط الثقافى، رغم اتّصالى المُباشر والعميق به منذ عقدين تقريبًا، فضّلت دائمًا النأى بنفسى عن اجتماعيّاته السخيفة، لأقف على تخومه مُشاهِدًا وناقدًا، وللأسف ظلَّت انطباعاتى الأولى راسخةً ومُتجذّرة، لا تزيدها الأيام إلا ثباتًا.
الوسط الثقافى فقير للغاية، فيما يخصّ الموضوعيّة والنزاهة والاحتكام إلى قواعد مُجرّدة، تُجاهر بنفسها فى وجه القريب قبل البعيد، والحبيب قبل العدو، بل وفيما يخصّ الثقافة نفسها، أغلب المُلتحقين بصنعة الأدب وحواشيها غير مُثقّفين، بالمعنى العضوى الفاعل، والحصّة الأكبر من الفعاليات والمُعالجات النقدية، وحتى تعليقات «فيس بوك» الافتراضية، مجّانية وشخصانيّة ومُجامِلة ورقيعة، مُمارسات الناس فى الجلسات والسهرات واللقاءات لا تختلف كثيرًا، أغلبها أحاديث عن علاقات مشبوهة، أو مصالح، أو تربيطات، أو صفقة تنتهى بندوةٍ هنا أو كتاب هناك، تلك هى الصورة العامة المُسيطرة، وما حولها استثناء، يُؤكّدها ولا ينفيها للأسف.
حصّة كبيرة ممّا يُكتب أو يُمارس على هامش الأدب/ النصوص، ابتذالٌ إنسانىّ، وتجارة واضحة بما تلوكه الساحة من قيمٍ وشعارات، وصل الوسط إلى مرحلةٍ بشعةٍ من الاستهلاك، وترهّلت معاييره مع ترهُّل النصوص، وصولاً إلى مستوى سائلٍ من مشاعيّة الكتابة، إبداعًا وترويجًا، وضمان أن تُوافق تلك السيولة قدرًا من الاحتفاء، إمّا طمعًا فى مصالح يتبادلها اللاعبون، أو تغليبًا لحالةٍ رماديّة باتت تُسيطر على الجميع تقريبًا، وبين الطمع والمُجاملة تحوّل استهلاك الإبداع والتعاطى معه إلى مرحاضٍ كبير، خطوط صرفهِ مسدودةٌ، وروائحه لا تتوقّف، تركيز النشادر فى أجواء الساحة الثقافية يتزايد، وكثيرون سيموتون مُختنقين، إمّا لعجز نُصوصهم، أو اتّساع رئاتهم فوق قُدرة أجسادهم المحدودة، أو لأنهم دائمو الإقامة والكتابة والمُثاقفة فى تلك الأجواء الملوّثة، أو لأنهم مظلومون، لا يملكون من أمرهم شيئًا، ضمرت رئاتهم الصغيرة النظيفة، وشُلَّت أقدامهم القصيرة الليّنة، فلا هم راضون بالواقع المُحيط، ولا طاقة فيهم للخروج عليه.
مشاعيّة الكتابة فكرة إيجابية وخلّاقة، لو توفَّر لها سياق ثقافى حاضنٌ، ينطوى على نُضجٍ أكبر، إذ تنتصر لديناميكية الإبداع وتداوليّته، هى فكرة ما بعد حداثيّة بامتياز، تنسف المراكز سالفة التعليب والتكريس، تنسف صُنع سرديَّة كبيرة ومُمتدّة، تحوز التكريس والمركزية بامتداد العمر وتواتر الذِّكر، تُفكِّك العالم وتُوزِّعه خُبزًا يوميًّا على ناسه ومُستحقّيه، وتصنع أقطابًا مُتعدِّدة بعدد الأيام والأقلام والمطابع والقُرّاء، لكنّها تحتاج مُثقّفين ومُبدعين غير مُثقّفينا ومُبدعينا، تحتاج أُناسًا ناضجين، ونفسيّات غير مُشوَّهةٍ، وأرواحًا مُتحقِّقةً فى مسالك وعلى أصعدةٍ مُتنوِّعة، فلا تُمثِّل لها الثقافة إلا فعل وجودٍ يومىّ، لا فعل تحقّقٍ مَعيشىّ، أى ألّا تكون وسيلة لوجاهةٍ أو هالةٍ أو حُضورٍ اجتماعىّ أو ثراءٍ مادىّ، أو إشباع غريزى، الانتصار ليوميَّتها سيضمن أن تُنجز كل ذلك، سيكسب أصحابها ويطبعون ويشتهرون ويُسافرون ويُشبعون غرائزهم، ولكن بنظافة، وبقدرٍ من الإنجاز، ودون سبق إصرارٍ واسترخاص.
أمراض الساحة لا تتوقّف على فصيل دون آخر، ولا ينجو منها أحدٌ تقريبًا، لكن تتفاوت نسبة تركُّز «الفيروس» فى الدم، ولا فارق بين من يُسخِّر المؤسَّسة الرسميّة أو الأهليّة فى مُجاملةِ صديقٍ بكتاب أو ندوة أو مقالٍ غير مُستحَقٍّ، ومن يُجامل ويتملّق فى تعليق عابر على «فيس بوك»، الشلّة طقسٌ حاكم، وميكانيزم قائدٌ للساحة، ولكل دائرةٍ ولاؤها الذى لا تخرج عنه، فتعقد تحالفاتها الصغيرة، وتنتصر لنفسها، وتصنع مراكز قوى، وموجات ترويج وتصدير وإقناع بالإلحاح، ويتسرَّب هذا بالتبعية مع تصاعد عضو من الشلّة، أو صعوده لعضويّة مؤسَّسةٍ رسميّة أو مطبوعة أو لجنةِ جائزة، الشُّبهة عامّة والجميع جاهزون، ومن لم يفسد حتى الآن، يتحلَّى بنظافته لأنه لم يُختبر فى الغالب، كل من اختُبروا فشلوا للأسف!
الوقائع كثيرة، وكثيرون من العاديّين وأبناء الهامش ينطبق عليهم المعيار نفسه. الفساد الثقافى يترعرع فى الهوامش كالمتون، فى الأطراف كالمركز، ورغم قِدَم حالة الاعتلال، فإن حدَّتها تزايدت، وتضخّم أثرها خلال السنوات الأخيرة، ما يقودنا، وربما قادنا بالفعل، إلى ساحةٍ واسعة من الادّعاء، يسير كلُّ ساكنيها مربوطين فى شُبهاتهم الكبيرة والصغيرة، بينما ينظر كل منهم للآخر ساخرًا ولائمًا ومُعاتبًا ومُتصنِّعًا البراءة!
ربّما بدأ الأمر من تحزُّبات الشكل والجيل، سواء مع مُصادرة «العقاد» للقصيدة الجديدة وشُعرائها، وفى مقدمتهم أحمد عبد المعطى حجازى، ثم مُصادرة الأخير على قصيدة النثر وأجيالها، أو تخندُق المُبدعين فى مجموعاتٍ انطلقت كمسالك جماليّة وقوافلَ بحثٍ عن النور، وانتهت إلى أن تكون كل منها «جيتو» مُغلق على أعضائه، لا يعترف بالمُقيمين خارج حدوده، ولا يرى إبداعًا أو جمالاً إلا فى المُنتمين إليه بالوَصل والرَّحِم والصداقة والاتّفاقات الضمنيّة!
تلك الحالة التى نشأت من وصاية الكلاسيكيّين، وتطوَّرت مع صراع جيل الستينيات ومُحاولات نفيه الأجيال التالية، تمدَّدت واستفحلت؛ حتى أصبحت تُغطّى فضاء الساحة بكامله، فلا إبداع إلّا فى الشعر، هكذا ينحاز الشعراء، بينما يرى الروائيّون أنّنا فى زمن الرواية وما دونها خواء، يُقاتل شُعراء النثر لإثبات أن خلاصة الشعرية الراهنة لا تسكن إلا فى حظائرهم، ويستميت الكلاسيكيّون لحسبان النثريين على الهرطقة والتغريب وانتهاك الثوابت. موظّفو الثقافة ينحازون لأصدقائهم، وأصحاب دور النشر يُرشِّحون حواريّيهم للجوائز، النقّاد لا يقربون إلا إبداعات أصدقائهم، وكُلُّ جيلٍ يقبض على حربته ليخوض صراع الوجود، بالطرق الملتوية قبل القويمة، وكأنّ الساحة لا تتّسع للجميع!
الخلاصة.. الجميع ملوّثون، وأفدح ما فى ذلك أنه ينطوى على شعارات وتجارة بالمبادئ، وعلى توظيف غير مُستقيمٍ للقيمة المعنوية، ونعومة الحضور الإنسانى، وعلى مُراوغةٍ للتاريخ وأدوار الآخرين، وفرص بناء الجدارة بالفعل والتراكم، لينتهى الأمر إلى تعبئة رئاتٍ هشَّةٍ بهواء فاسد، وخداع أُناسٍ وظُلم غيرهم ومُجاملة آخرين، الجميع يتحدّثون عن اختلال القيم وإهدار المعايير وتسيُّد المجاملة والجَور على المُبدعين، حينما يضعون أنفسهم تحت راية المظلوميّة، لكنهم سرعان ما يقبضون على السيف المُلوَّث نفسه، لذبح آخرين وتعريتهم، وسلبهم حقَّ الوجود الهادئ فى مساحة يُفترض أن تكون حَيّزًا للسلام.. الجميع يقتلون، ثمّ يبكون الضحايا بدموعٍ سوداء، تُشبه قلوبهم!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة