لن توجِّه ناظريك فى اتّجاه إلا وستجد من يشكو الشِّلَليّة، وتغليب العلاقات الشخصية على كلّ معيارٍ وقيمة. الأمر شائع فى المجتمع المصرى عامّة، لكنه يكتسب حضورًا أكبر، وبكاءً و«ولولة» أعلى صوتًا، فى الساحة الثقافية خاصّة، ولو فتّشت خلف كلِّ بكّاءٍ ومُولولٍ، فستجد شلَّة أقصر باعًا وذراعًا من غيرها، وهذا كلُّ ما فى الأمر.
قبل سنتين، أُثيرت قضية اعتبرها البعض فضيحة الوسط الثقافى الكبرى، تمثّلت فى تورط عشرات النقاد من عدّة دول، أغلبهم مصريون، فى الكتابة عن ديوان هشّ لشاعرٍ عراقىّ مُبتدئ، مُتجاوزين المنهج والقيمة وما تستطيع كتف الديوان حملَه. هاجت الساحة وماجت، لتسبَّ وتلعن نقّاد الشنطة وعبيد الشلَّة والدولار، لكن المُبكى والمُضحِك فى آن، أن أغلب من هاجوا من أبناء شِلَلٍ ودوائر أخرى مشبوهة، أحدهم تورَّط فى تمرير جائزة الدولة التشجيعية لعدد من أصدقائه ونُدمائه فى صالون شاعرةٍ عربيّة اشترت مئات المُهلِّلين لسنوات، وآخر يمارس كلَّ ضغطٍ وتصعير خدٍّ طمعًا فى ندوة هنا أو كتابٍ هناك، ويبتزّ النساء، ويعيش حياته الافتراضية بوجوهٍ عديدة، بعضها بأسماء فتيات، إضافة إلى نماذج أخرى تتفاوت فى نقائصها، لكنهم كانوا جميعًا من أبناء الشِّلَل والدوائر النفعيّة المُغلقة، ولم تكن ثورتهم إلّا لأنّ الثَّور الذى سقط على المذبح من شِلّةٍ أُخرى، ولن يتأثّروا بذبحه!
الأمر فى ذاته قد لا يكون نقيصةً، الشِّلَليّة والدوائر الخاصة والجبهات الصغيرة أُمورٌ مشروعة، لو كانت مؤسَّسةً على نزاهةٍ ومعياريّة قيميّة وانحيازاتٍ جمالية. «إضاءة 77» كانت شِلّة بدرجة من الدرجات، و«جراد» كانت شِلّة، وحديثًا كانت «آدم» و«مغامير» وغيرهما شِللاً. لكن المشكلة أن تتحوَّل الشِّلَّة إلى آليّة لحَمْد الناس بما ليس فيهم، وتوفير مكاسب شخصيّة، وفَتح أبوابٍ ملكيّة على مساحات غير مُستحقَّة.
أذكر قبل عدّة سنوات، واتتنا فكرة أنا ومجموعة من الأصدقاء، لفضح تلك الحالة من الفساد، وإطلاق ضوءٍ كاشفٍ على الأبواب الملكيّة المشبوهة، ففكَّرنا فى تحقيقٍ صحفىّ، خطَّطنا له وجهّزنا مادته، وتتلخّص فكرته فى الدفع بفتاةٍ جميلة وأرستقراطيّة الطابع، ونشر كتابين لها، وإعدادها لنَسج شبكة علاقات ثقافيّة، والسعى لمنحها عضوية اتحاد الكتاب وإحدى لجان المجلس الأعلى للثقافة، مع ما بينهما من ندواتٍ ولقاءات وقراءات نقديّة وجوائز. وبالفعل اخترنا صديقةً فاتنةً، واخترنا اسمها الأدبى، ووضعنا هيكلاً لديوانى شعرٍ تافهين، وقائمة تضم أكثر من عشرين ناقدًا مصريًّا ممّن يُحبّون الأبواب المشبوهة، وآليّة الوصول لكلّ منهم، من الدلال إلى المال والمآدب وسهرات البارات، ولكن توقَّفنا قبل البداية مُباشرةً، لاعتبارات قيميّة، أبرزها أن الساحة مُتهرّئة ومُشوَّهة، ولا تحتمل ضربةً تحت الحزام بكل تلك الحدّة، خاصّة مع ثقتنا المُسبَقة فى التورُّط المؤكَّد لكلّ من اخترناهم، وإخلاصهم للسيناريو المسبوك، فى ضوء ما نعرفه عنهم يقينًا من سوابق الحكايات والقصص.
بعيدًا عن محاولتنا، التى كانت عملاً صحفيًّا بالأساس، فإن ما كُنّا نرمى إليه تجسَّد بوضوح فى فضيحة ديوان الشاعر العراقى، لن يستطيع مُنصفٌ مرَّ على الساحة الثقافية واختبرها اختبارًا عميقًا، الهروب من فكرة الأبواب الملكيّة، المشبوهة دائمًا، بالشخصنة أو المصلحة أو الهوى، فطوال عقودٍ كان عدد من رموز الساحة بوّابة ملكيّة لـ«ميس السويدان»، التى اشترت باقة من مُثقّفى مصر ثمّ رحلت مع سقوط الإخوان، لتدعم الجماعة وتفضح طابورًا من مُبدعى الموائد العامرة. وكان فريق من النقّاد الذين يعرفهم الجميع، بوّابة ملكيّة لأصواتٍ سطحيّة، أو نساء جميلات، أو كتابةٍ محمولة على أموال الشرق. أحدهم سخّر حزبًا سياسيًّا لتحقيق مصالحه عبر ورشةٍ أدبية، وآخر وظّف هيئة رسميّة أدارها فى تلميع اسمه الأكاديمى الباهت قبل أن يُعوّض النقص بالزواج من شخصية معروفة، وآخر طبع أعمالاً كاملةً لأصدقاء على قيد الحياة، وثالث أدار الساحة من جلسته الأسبوعية فى مصر الجديدة، فقرّب حواريّين وجميلات وتابعين ومُسبِّحين بحمده، واستبعد وجوهًا وأسماء وتجارب مُتحقِّقة. والقوس مفتوح على عشرات الأسماء التى لا طاقة ولا وقت لحصرها.
بات معروفًا أن للساحة الثقافية بوّابات ملكيَّة، إذا أردت العبور عليك الاعتصام بإحداها، وسداد الفاتورة قدر ما يتيسّر لك، إما بالتزلُّف والتملُّق، أو بامتشاق «الدُّفّ» والتهليل للسادة والثناء على تفرُّدهم وحضورهم الطاغى، أو خوض الحروب بالوكالة، والثأر ممّن يمسّ الدوائر المُقدّسة لهم، أو نقل الأخبار والفضائح، أو لعب دور المُهرِّج فى الجلسات، للتسرية عن الأباطرة وإمتاعهم. أدوار عديدة تنتظر أصحابها المُتطلِّعين لعبور البوّابات الملكية، بينما تستميت المومياوات الثقافية فى اختطاف مقابض البوّابات، ولا تُسلّم الراية إلا لأبناء الحظوة وعبيد الحقل!
الأزمة الحقيقية، أن الأمر ليس وَقفًا على المُتربّحين من المؤسَّسة الرسمية. لن أكون مُنصفًا إن تغافلت عن كامل الصورة، وغلَّبتُ زاويةً على زوايا، فالعائلة الثقافية أصابها الوباء، وضربتها الشِّلَلية حتى النخاع. فى أندية الأدب شِلَل تتصارع فى جسد الثقافة الجماهيرية، وعلى مقاهى القاهرة شِلَلٌ تتصارع فى المراكز الثقافية وعلى صفحات الجرائد، وفى الندوات والأمسيات شِلَلٌ تعرف بعضها بالرائحة والمصلحة والتماعِ العين، حتى فى الواقع الافتراضى «فيس بوك» تزدهر الشِّلَلية وتُورق مجاملات وتفخيمات واحتفاءات مجانية.
وفق هذا المعطى، يُمكنك أن تراقب نوادى الأدب والندوات وصفحات الصحف ولجان الأعلى للثقافة وبرامج المؤتمرات وسلاسل النشر وصفحات «فيس بوك»، وستجد فى الغالب صديقًا يحتفى بصديق، أو مُحبًّا يكتب عن حبيب، أو نديم مقهى وكأس يكتشف عبقرية الندماء، أو قدِّيسًا يُقرِّب حواريّيه وحاملى حقائبه، أو طاووسًا يمتدح مادحيه، أو مُستثَارًا يخال نفسه ذكرَ القطيع. وخارج تلك التقسيمات رُبَّما تجد آحادَ مُبدعين ونقّاد يُغرِّدون فى الفراغ، يقولون ما لا يُقال، ويسيرون عكس السائرين، هم تأكيدٌ للحالة لا نقضٌ لها، وبقدر أصواتهم الواهنة، يتعالى قَرعُ الراغبين والمُهلِّلين والمُتملِّقين للبوّابات الملكية، وتتوالى طوابير العابرين، بعدما سدَّدوا الفواتير!