وقف على بلحاج وسط آلاف من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ فى الجزائر، عقب الفوز بالانتخابات البرلمانية ديسمبر 1991، صارخًا: «هذا يوم عُرس الديمقراطية ومأتمها، عرسٌ لأننا وصلنا إلى الحكم بالانتخابات، ومأتم لأن الديمقراطية نظام كافر لا علاقة له بالإسلام، ويوم نتسلَّم الحكم سنلغيها ونُقيم الحاكمية الإلهية.. جئنا بالديمقراطية لكى نقول لها باى باى»... لم تكن الرسالة مجازيّةً أو هلوسة فى نشوة الفوز، فسرعان ما حمل رجاله السلاح لتأمين مشروعهم وتنفيذ المُخطّط، وبسبب تسارع إيقاع العنف؛ اضطُرّ الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات، وإعلان الطوارئ فى فبراير التالى، ثم مُحاكمة «بلحاج» وزعيم الجبهة عباسى مدنى خلال يوليو، لتبدأ العشرية السوداء التى أراق فيها الإسلاميون دماء 100 ألف جزائرى.
كان هذا السيناريو الأسود مُرشّحًا للتكرار فى المشهد المصرى. فرغم تماسك المجتمع وصلابة المؤسَّسات، ومعاناتنا بقدرٍ أقل من أزمات الميليشيات المُسلَّحة، كانت جماعة الإخوان أكثر مَيلاً إلى رؤية فرعها الجزائرى، والنظر للديمقراطية باعتبارها مطيّةً مرحليّة، وأداةً تنتهى فائدتها بالتمكين، ورغم أنها كانت أكثر تحفُّظًا فى التصريح بنواياها المُضمرة، على عكس خطاب «بلحاج» الفجّ، فإن ممارساتها لم تبتعد عنه كثيرًا، وكلّ ما فى الأمر أنها اعتمدت مَسلكًا مُغايرًا لتحقيقها، وإحكام الخناق حول عنق الدولة.
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى لثورة 25 يناير، أن «الإخوان» تضع عينها على السلطة، ولا يتجاوز الشارع فى نظرها كونه أداةَ ضغطٍ على المؤسَّسات الصلبة؛ لإنجاز المُخطّط والوصول لتلك الغاية. غابت عن بداية الاحتجاجات، ثمّ التحقت بها متأخّرًا، وركبتها، وسارعت بالتفاوض مع نظام مبارك. تقاربت مع القوى السياسية لتتلاعب بها، وأعلنت ابتعادها عن المنافسة على الرئاسة، بينما كانت تُجهّز مُرشّحًا وبديلاً احتياطيًّا. واكتملت لها المرحلة الأولى بالسيطرة على غرفتى البرلمان، والجمعية التأسيسية للدستور، والوصول إلى قصر الاتحادية راكبةً ظهور القوى المدنية، بعد عملية ابتزازٍ وتصعيد واسعة المدى!
تصوَّرت الجماعة أن حلم التمكين، المُسيطر عليها منذ ولادتها فى 1928، قد تحقّق، أو اكتملت الأُسس القاعدية الكافية لإطلاقه والمُجاهرة به، فقبضت على الحكومة والمؤسَّسات التنفيذية، واستبدلت رجالها بالمُحافظين من التيارات الأخرى، وأعدّت إعلانًا دستوريًّا يُمكّنها من حصار الشارع، وتقويض المؤسَّسات الصلبة والناعمة، طمعًا فى إعادة هيكلة البنية السياسية والتنفيذية بما يتوافق مع تطلُّعاتها، ويضمن لها إقامة لا نهائية فى السلطة!
أخطر ما فعلته الجماعة أنها قرّرت هندسة هرم السلطة خارج البنية المؤسَّسية. فى الوجه الظاهر بدا أنها تصالحت مع هياكل دولة يوليو، لكن فى العُمق أعادت تحرير العلاقات؛ لتضع جسدها بكامله فى سياق المعادلة. لم تكن الجماعة الطامعة لتصبر حتى تخترق المؤسَّسات من داخلها، وهو ما يحتاج عقدين أو أكثر، ويُحتمل فشله مع بعض الأبنية الصلبة، فشقّت سكّةً فرعية تربط الاتحادية بالمُقطّم، ليحلّ المُرشد ومكتبه رأسًا أولى للسلطة، ويتراجع منصب الرئيس إلى حدود السكرتارية أو ساعى البريد.
فضلاً عن الصيغة المشوهة، وما تنطوى عليه من مُثيرات الصدام مع بنية السلطة، كان الوضع فاضحًا ومُهينًا لدولة مركزية مثل مصر، إلى جانب ما فيه من ثغراتٍ مُرعبة، فى ضوء نفاذ الجماعة لأوراق المؤسَّسات وأسرارها، وقدرتها على توظيفها أو تسريبها دون أية مسؤولية أو مُساءلة. كان ذلك بمثابة منح مزايا كاملة للتنظيم، لا تُقابلها أعباء أو التزامات، ليكون هذا اللاعب الخفىّ فجوةً فى بنية الأمن القومى، يسهل توظيفها لاحقًا لابتلاع الهيكل الإدارى والتنفيذى والأمنى للبلد بكامله!
اكتمال المُخطّط كان يعنى مصادرة الدولة لصالح الإخوان. فمع نجاحها فى اختراق المؤسَّسات والتغلغل داخلها، ستظل الجماعة مُحتفظةً برأسين للسلطة: الرئيس الذى يمكن تبديله أو تغييره أو مساومة القوى الأخرى به مستقبلاً، ومكتب الإرشاد الذى سيظلّ رأسًا دائمًا يتّصل مُباشرةً بأذرعه داخل أوعية السلطة، ما يعنى استحالة نزع التنظيم من بنية الهياكل المؤسَّسية، حتى لو خسر الرئاسة. بينما على الجانب المقابل بدت التيارات السياسية عاجزةً تمامًا عن إدارة اللعبة، فى ظلّ انكشاف الجماعة العميق على أفكارها ورؤاها، واختراقها لكثيرٍ منها، أو السيطرة على قطاع من قادتها بالإغراءات، أو بما وفَّرته سنوات التحالف القديمة من معلوماتٍ وأدوات ابتزاز. وفى ظلّ تسيُّد تلك المعادلة، لم يكن هناك بديل عملىّ إلا أن يستعيد الشارع زمام المبادرة.
كان الشارع جاهزًا للغليان جرَّاء مُمارسات الجماعة وانفلاتها، وهو ما احتاج مبادرة بسيطة من شباب الصفين الثانى والثالث؛ لتوظيف تلك الطاقة. هكذا كانت حركة «تمرُّد» مسارًا مُهمًّا لتنظيم فائض الغضب، بعيدًا عن رؤوس القوى السياسية وقادتها الملوّثين فى لعبة الإخوان. اضطلعت الحركة بترتيب الصفوف، وتمرير السخونة إلى واجهة المشهد، رهانًا على اتّساع الحشد، وانضواء الأحزاب ضمن تلك الموجة، ثمّ مُساندة المؤسَّسات الوطنية، على الأقل بالحماية من بطش الإخوان وميليشياتهم، بعد بروفات قمعٍ سابقة فى الاتحادية والمقطم وعدّة محافظات. وكان أهم ما فى تلك الصيغة أنها بلا رأسٍ يُمكن أن تُغريه الجماعة، أو تحاصره، أو تُطلق ماكيناتها لتشويهه.
فوجئ الإخوان بنزول قرابة 27 مليونًا يُمثّلون 30% من السكان، وباستبعاد حوالى 10% من المُسنّين، وما لا يقل عن 40% من الريفيِّين والبدو ومجتمعات الصعيد، ممّن يصعب عليهم التظاهر والاحتجاج، وبالنظر إلى فوز محمد مرسى بـ13 مليونًا فقط، كانت ثورة 30 يونيو موجةً وطنيةً كاسحة، وخيار الضرورة لتقويض مشروع الجماعة غير الوطنى، قبل اكتماله وابتلاع المؤسَّسات.
لم تُنقذ 30 يونيو الدولة أو تعصمنا من العشرية الجزائرية السوداء فقط، وإنما فتحت بابًا واسعًا لحصار اليمين الدينى، ولَجْم تطلُّعاته فى المنطقة، سواء الجبهات الساخنة باليمن وسوريا وليبيا، أو الساحات الهادئة كالأردن والإمارات والسعودية والمغرب، ما يعنى أنها كانت خطوة أولى، وطاقة دافعة، لتخليص الإقليم من شرور الإسلام السياسى، أو تقليم أظافر تنظيماته على الأقل، وبينما تأهّب الإخوان لتنفيذ سيناريو جبهة الإنقاذ الجزائرية وتلبُّس وجوه إرهابيِّيها، كانت ملايين 30 يونيو تحشو رشّاش على بلحاج بالرمل، قبل أن يُريق دماء آلاف آخرين على امتداد دول المنطقة.