كان من حسن حظ الموسيقار محمود الشريف، أن هوايته للفن، بدأت مع مطلع العصر الغنائى الحديث الذى ابتدعه «سيد درويش» بألحانه وموسيقاه الجديدة التى أحدثت انقلابا فى عالم الموسيقى والغناء، وحولت عالم التطريب إلى عالم التعبير.. وكان من حسن حظه أيضا أن هوايته للفن جاءت فى نفس التاريخ الذى أهدى لنا فيه العلم اختراعه العبقر» «التسجيل على أسطوانة، الذى مكن جيله من الاحتفاظ بألحان سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهم، وساعد على انتشارها بين عشاق الفن ومريديه.
هكذا يتذكر «الشريف» بداياته الموسيقية فى مذكراته المجهولة، إعداد: الشاعر والكاتب محسن الخياط، ونشرتها مجلة «الشاهد - شهرية - قبرص» من مارس 1989 إلى يوليو 1990، ونقف عند بعض محطاتها لأهميتها «راجع ذات يوم 29 و30 يوليو 2019».. وكان يوم 31 يوليو مثل هذا اليوم 1990، هو اليوم الثالث على وفاته.
يكشف «الشريف» فى مذكراته، أنه غادر الإسكندرية إلى القاهرة بعد أن قرأ فى مجلة «الصباح» إعلانا عن قبول طلاب جدد فى أول معهد للموسيقى العربية بالقاهرة، لكنه خرج من لجنة الامتحان احتجاجا على عجرفة رئيسها، وكذلك فعل مطرب ناشئ تعرف عليه هو «حسن سلامة»، وعن طريقه تعرفه على الحياة الفنية فى القاهرة، ذهب إلى شارع عماد الدين ومسارح على الكسار والريحانى ومنيرة المهدية، ثم عاد بعد شهر ونصف إلى الإسكندرية والتحق للغناء بين الفصول فى فرقة «فوزى الجزايرلى» إحدى فرق الإسكندرية المتجولة، ثم انتقل مطربا وملحنا وممثلا للعمل مع فرقة أحمد المسيرى، ثم فرقة على لوز، وفرق أخرى.
جابت هذه الفرق قرى ومدن مصر.. يؤكد «الشريف» أن تجربتها أفادته كثيرا.. بفضلها تعرف على أمهات الأعمال الفنية لكبار الفنانين من أمثال كامل الخلعى وداود حسنى وسيد درويش، وربته على الغناء المسرحى الذى يختلف عن الغناء الفردى الذى كان طابع العصر ومثل قطبيه عبد الوهاب وأم كلثوم، كما علمته الصبر، فهذه الفرق قد تتوقف فى أى وقت، مما يجعل أعضاءها على باب الله.
التحق الشريف بالعمل فى فرقة بديعة مصابنى أواخر 1932، وفى 1933 جاءته الفرصة ليضع أول لحن له.. يتذكره: «جاءنى «ابن الليل» أحد مؤلفى الأغانى والمونولوجات، وقدم لى كلمات أغنية جديدة، قلت له: ومن المطرب؟ قال: إبراهيم حمودة.. لم أعلق.. قرأت الكلمات أعجبتنى وتحمست لها، أغلقت باب غرفتى المتواضعة جدا ولم أفتحه إلا بعد أن انتهيت من صياغة اللحن، لكن إبراهيم حمودة لم يرُقنى، ولم أكن معجبا بصوته ولا بأدائه، كنت آراه وهو يعمل معى فى فرقة بديعة مجرد واجهة تستعرض نفسها هنداما ومظهرا أكثر مما تقدم فنا، كان حريصا على المعجبين بأناقته وهندامه لا المعجبين بفنه، والحقيقة أننى منذ مرت أناملى على العود لأصوغ اللحن كان فى أذنى محمد عبد المطلب المذهبجى المشهور فى تخت عبد الوهاب، وصاحب الصوت المتفرد، والأداء الخاص الذى بدأ نجمه فى الظهور».. يتذكر أنه فى الصباح التقى بالمؤلف وسأله عن اللحن، فأبلغه أنه انتهى منه لكنه يشترط أن يغنيه «محمد عبد المطلب».. يؤكد الشريف: «أربكت المفاجأة المؤلف، وقال إنه قبض عربونا من إبراهيم حمودة خمسة وعشرىن قرشا، فأخرجت المبلغ من جيبى وكان كل ما معى، وبالفعل ذهبت الأغنية «بتسألينى بحبك ليه» إلى عبدالمطلب لتنجح نجاحا مذهلا».
بعد ثلاث سنوات مع فرقة بديعة، تمرد الشريف على العمل فى الصالات.. قرر العمل كملحن حر، والتحق بفرقة الراقصة «بيا عزالدين» تحت تأثير صديقه محمد عبد المطلب الذى تزوج من شقيقتها.. يؤكد الشريف، أنه أثناء عمله فيها قدم الفنان محمد فوزى القادم من طنطا فى استعراض «بالوما»، وأصبحا صديقين واتخذا مسكنا مشتركا فى القاهرة لسنوات طويلة.. يتذكر يوم أن أخذه المذيع محمد فتحى إلى الإذاعة، ووفقا لفتحى فى مقال له يوم 14 فبراير 1976: «كان نجاحه فوريا وحماسيا، ما إن استمعت إليه الجماهير فى البرامج حتى تهافتت عليه شركات الإنتاج السينمائى، كانت الأغنية كالرقص عنصرا أساسيا فى الأفلام، واعتمدت الإذاعة عليه طويلا فى شتى برامجها الغنائية والروائية، وكان صاحب أول تجربة إدخال الأوبرا المصرية فى برنامج «روما تحترق» و«روميو وجوليت» اللذين انتجتهما وأخرجتهما.. هذه التجربة كانت حافزا لعبد الوهاب كما قال لى لتلحين مشاهد مسرحية شوقى «مجنون ليلى» تلحينا أوبراليا.
سافر «الشريف» إلى القدس للعمل فى إذاعتها خلال شهر رمضان، وفى الفندق تعرف على المطرب عبدالغنى السيد، وبعد عودتهما إلى القاهرة غنى له الكثير من الألحان الخالدة، من بينها «وله ياوله» و«ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين» وتحفته «البيض الأمارة والسمر العذارى»..يتذكرها الشريف: «دخلت كل زقاق وكل بيت ولم تترك محفلا أو حفل عرس إلا وكانت مطلبا ملحا لكل الحاضرين».. قدم لعبد المطلب: «رمضان جانا، والسبت فات والحد فات، وودع هواك وانساه، وبياع الهوي» ولمحمد قنديل «تلات سلامات» ولأحلام «ياعطارين دلونى الصبر فين أراضيه»..وكان كل ذلك يمهد الطريق إلى اللقاء بأم كلثوم الذى شهد دراما إنسانية عميقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة