أمر الجنرال «غرازيانى» الحاكم العسكرى الإيطالى لليبيا، بإحضار زعيم المجاهدين عمر المختار إلى مقر الحكومة للتحدث إليه..كان «المختار» أسيرا منذ يوم 11 سبتمبر 1931، وينتظر مصيره.. «راجع، ذات يوم 11 و12 سبتمبر 2019».
تلهف «غرازيانى» الذى اشتهر تاريخيا بلقب «جزار برقة» للقاء المختار، ليرى ويتحدث مع هذا الرجل الذى قاد وبصلابة نادرة كفاح الليبيين المسلح وثورتهم ضد الاحتلال الإيطالى منذ 1923..جرى اللقاء صباح يوم 15 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1931، قبل محاكمة «المختار» مساء نفس اليوم، حسبما يؤكد «غرازيانى» فى مذكراته «برقة الهادئة» ترجمة: إبراهيم سالم بن عامر.
يتذكر غرازيانى: «عندما حضر أمام مدخل مكتبى تهيأ لى أنى أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامى بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التى أصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطا لأنه كان مغطيا رأسه «بالجرد»، ويجر نفسه بصعوبة نظرا لتعبه أثناء السفر بالبحر «نقله إلى بنغازى بعد أسره»، وبالإجمال يخيل إلى أن الذى يقف أمامى رجل ليس كالرجال، له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر».
اصطحب «غرازيانى» من طرابلس مترجمه الخاص النقيب خليفة خالد الغريانى.. بدأ فى توجيه الأسئلة والمختار يجيب.. سأل: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟ أجاب المختار: من أجل وطنى ودينى.. سأل: هل كنت تأمل فى يوم من الأيام أن تطردنا من برقة بإمكانياتك الضئيلة وعددك القليل؟ أجاب المختار: لا، هذا كان مستحيلا.. سأل: إذًا ما الذى كان فى اعتقادك الوصول إليه؟ أجاب المختار: لا شىء إلا طردكم من بلادى لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهو فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله.. رد الجنرال: لكن كتابك يقول «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» بمعنى لا تجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا. رد المختار: نعم. فسأل الجنرال: إذا لماذا تحارب؟..أجاب المختار: كما قلت من أجل وطنى ودينى».
غضب «غرازياني» وقال: «أنت تحارب من أجل السنوسية، تلك المنظمة التى كانت السبب فى تدمير الشعب والبلاء على السواء، وفى الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق، هذا هو الحافز الذى جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت».. نظر المختار إلى غرازيانى، نظرة حادة كالوحش المفترس، وقال: «لست على حق فيما تقول، ولك أن تظن ما ظننت، ولكن الحقيقة الساطعة التى لاغبار عليها أننى أحاربكم من أجل وطنى ودينى،لا كما قلت».
زال «الجرد» من على رأس المختار، فظهر وجهه كاملا، واستطرد «غرازيانى» فى توجيه الأسئلة، والمختار يجيب بثقة.. سأل: «لماذا قطعت المهادنة السارية وأمرت بالهجوم على قصر بن قدين»؟.. أجاب المختار: لأنه منذ شهر أرسلت رسالة إلى المارشال «بادليو» ولم يجبنى عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.. رد الجنرال: «لا، أنت أردت قطع المهادنة لحاجة فى نفسك وهاك الدليل».
قرأ غرازيانى دليله، وهو بيان نشرته الجرائد المصرية بتوقيع المختار، ثم ضغط على حروفه وهو يقول: «إنه الدليل على قطع الهدنة»، فرد المختار: «نعم نشرت البيان فى مصر بتوقيعى، ولكن ليس هذا هو الدليل، إنما هو عدم تجاوبكم معنا فى تنفيذ شروط الهدنة».. سأله الجنرال: «هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتى»؟أجاب المختار: نعم، كل الأخطاء والتهم هى فى الواقع مسؤولية الرئيس، والحرب هى الحرب.. رد الجنرال: هذا صحيح لو كانت حربا حقيقية لا قتل وسلب كيف حروبك؟.. رد المختار: هذا رأى فيه إعادة نظر، ولازلت أكرر لك: الحرب هى الحرب.. قال غرازيانى: بموقفك فى موقعة «قصر بن قدين» ضيعت كل أمل وكل حق فى الحصول على رحمة وعفو الحكومة الإيطالية الفاشستية.. رد المختار: مكتوب، وعلى كل عندما وقع جوادى وألقى القبض على كانت معى ست طلقات، وكان فى استطاعتى أن أدافع عن نفسى وأقتل كل من يقترب منى حتى الذى قبض على وهو أحد الجنود من فرقة الصوارى المتطوعين معكم، وكان إمكانى كذلك أن أقتل نفسي.. سأله الجنرال: لماذا لم تفعل؟ رد المختار: لأنه كان مقدرا أن يكون».
كان «المختار» واقفا منذ بدء اللقاء فشعر بالتعب، واستأذن فى الجلوس، قائلا للجنرال: «كما ترى أنا طاعن فى السن، على الأقل اتركنى أجلس».. أشار غرازيانى إليه بالجلوس على كرسى أمام مكتبه، ثم فاجأه بالقول: «بما لك من نفوذ وجاه، فى كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة «الثوار» بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم وينهوا الحرب؟.. رد المختار: كأسير، لايمكننى أن أعمل أى شىء..نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقى السلاح، وأنا هنا لم يسبق لى أن استسلمت، وهذا على ما أظن حقيق وثابت عندكم».
اغتاظ الجنرال لكنه تماسك وقال: «لو تم تعارفنا فى وقت سابق والخبرة الطويلة التى أخذتها عليكم لكان علينا أن نصل إلى أحسن حال فى سبيل تهدئة البلاد وازدهارها».. رفع المختار حاجبيه بكل عمق وصوت جهورى وثابت، وقال: «إذا لم يكن اليوم هو ذلك اليوم الذى تقول عنه».. رد الجنرال: «فات الأوان».. يؤكد غرازيانى: «عند هذا الحد رأيت أن نوقف المحادثة فيما بيننا»..
هل توقف الحوار.. وكيف مضت الأمور؟