نقرأ معا كتاب " النبوة والسياسة" لـ الدكتور عبد الإله بلقزيز، الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، ويقول المؤلف فى مقدمة الكتاب، لقد اعتزمت وضع كتاب يتناول تجربةَ قيام الدولة فى الإسلام، فى الحقبة النّبوية حصرًا، أفرد فيه حيزا لمناقشة قراءات أخرى- استشرافية وعربية معاصرة- للسّيرة النبوية ولتجربة بناء "دولة المدينة" على وجهٍ خاص، لكن البحث فى الموضوع أخذنى إلى أبعد مّما قدّرت عند التخطيط له.
تبينَّ لى أن البحث فى تكوين مجال سيَاسى إسلامى ليس يستوعبه ويكفيه تَنَاوُلُ تجربِةِ بناءِ "دولة المدينة" حَصْرًا، لأن قيام الجماعة السياسية فى الإسلام المبكّرِ امتدَّ أَمَدُهُ إلى ما بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم)، ولأن الوفاة تلك كشفت عن عوائقَ ذَاتية فى تكوين الجماعة، وعن يُسْرِ تفككِ نسيجها الداخلى (جروب الردة، الحرب الأهلية والفتنة… )، ثم لأن العلاقة بين الدينى والسياسيِّ- فى تجربة البناء تلك- ظلت تستطيع أن تفَرْض نفسها على الجماعة (كما لازالت حتى اليومٍ) على الرغم من أنها شهدت حَلًّا حاسمًا لها فى العهد النبويّ.
وما كان لنا من بد، أمام هذا المعطى الذى فرض نفسه على البحث، من مطالعةٍ للحقبة ما بعد- النبويّة: حقبة الخلافة الراشدة، ودراستها كلحظةٍ من لحظات تكوين المجال الساسى فى الإسلام، وهو ما سنستكمله فى جزءٍ ثانٍ من هذا الكتاب.
كُتب الكثير عن السيرة النبويّة، وكان أكثُر ما يستحق القراءة فيما كُتِبَ ما كتبه الغربيون: على خلافٍ بين المسلمين وبينهم فى أموٍر كثيرة. وقيمة ما قدَّمه الغربيون إنما كان فى مناهج دراساتهم للسيرة: سواء من حقق منهم مصادر السيرة، أو من تناولها من منظور تاريخي، أو لا هوتى مقارِن، يستوى فى ذلك مَنْ قرأها بحسِّ تفهُّمى تعاطفى ومَنْ قَرَأَها من موقع ثقافى ونفسى متمايزٍ أو شديدِ الصّلةِ بمنطلقاته العَقَدية. وليس تزيَدًا فى القول أن يّرى المرءُ فى أعمال الغربيين عامة، والمستشرقين خاصة، أعمالًا تأسيسية نَبَّهَتِ العربَ والمسلمين متأخرين (فى النصف الأول من القرن العشرين) إلى حاجتهم إلى إعادة قراءة السيرة النبوية، بل تراث الإسلام: الفكرى والسياسيّ، إمّا انبهارًا بما فعله المستشرقون أو محاولة للردّ على الأحكام القاسية والمعادية لبعض أولئك المستشرقين. ولقد ازدهرت الكتابات العربية المعاصرة المهتمة بالتجربة النبوية منذ عقود وإن لم يكن الأعمّ الأغلبُ منها مستفيدًا من مكتسبات المعرفة المعاصرة، خاصة فى مناهج التاريخ وعلم الاجتماع (السياسي) وتحليل الخطاب.
لكن الغربيين، كالباحثين العرب المعاصرين، انصرفوا- ولأهدافٍ مختلفة- إلى قراءة المشروع الدينى النبوى فى المقام الأول: بعض الغربيين فَعَل ذلك من أجل تعريف جمهوره (الأوروبى أو الأمريكي) أو طلبته بالإسلام وكِتَابِهِ ونبيِّه مع التزام بعض الحياد (الذى غالبًا ما يضيع عند اللاهوتيين الغربيين أو فى سياق دراسات علم الأديان المقارن). وبعضُهم الثانى فَعَلَ ذلك من موقع بيان التفوق الدينى المسيحى أو من باب التشكيك فى نُبُوَّةِ محمدٍ ورمْيه بأقذع الأباطيل ومفرداتها. فى المقابل، كتب كتَابٌ عرب فى المشروع الدينى النبوى إما من باب الاهتمام الأكاديمي- وذلك كان أفضل ما كُتِبَ وهو قليل- أو من باب الدعوة والاتٌعَاظ بدروس التجربة النبوية، ولا تخلو تجربةُ داعيةٍ من الدعاة من هذا الضَّرب من الكتابة. أما مَنِ اهتمَّ منهم بالوجه السياسى من المشروع البنويّ، فكان إمَا استعراضيًّا فيما كتب: يستعيد وقائعَ السيرة مع قليلٍ من التصنيف وإعادة الترتيب، أو كان فى جملة مَنْ صمَّمَ مشروعه السياسيّ- التنظيمى “على مقاس “حركتها أو “على هدى” منها كما يقول، فيُوْتَى به إذن لكى يقال إن الشرعيةَ تقوم لمشروعه بقيامه على المثال الدّعوى النبوي.
لم أتناول من المشروع النبويّ- فى هذا الكتاب- إلاّ وجهَه السياسيّ، أمَّا الدينى فيه، وهو جوهرٌ، فما تناوَلْتُهُ إلا فى اتصاله بالسياسى أو فى اتصال السياسى به. وليس يخفى على القارئ أن مردَّ ذلك إلى طبيعة الموضوع الذى أبحث فيه: تكوين المجال السياسى الإسلامى والموقع التأسيسى للمشروع النبوى فيه. غير أنه فى سَعْيى فى ذلك، كنتُ أحاول- فى الوقت نفسه- كتابة سيرة سياسية للرسول صلى الله عليه وسلم بحسبان معطياتها هى المادة التى قام عليها ذلك التكوين. وأخيرًا لا أملك أن أخفى أن من أسباب انشغالى بهذا الموضوع- إضافة إلى ما سبق وأشرتُ إليه فى مستهل هذه المقدمة- انبهارى الشديد بعظمة ذلك المشروع السياسى الذى قاده رسول الإسلام منذ البعثة، وعظمة قائده الذى حوَّل القبائل إلى أمة تصنع التاريخ (وها نحن نحوّلها اليوم من أمَّة إلى قبائل!)، ثم انشغالى الحادّ بهذه العلاقة المتجدّدة- فى وعى العرب والمسلمين- بين الدينى والسياسيِّ، والتى زاد أوارها اليوم. فَعَسَى أن يساهم هذا الكتاب فى ترشيد التفكير فى المسألة من خلال ردِّها إلى أصولها التأسيسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة