نقرأ معا كتاب "الفتنة والانقسام" لـ عبد الإله بلقزيز والصادر عن دار نشر مركز دراسات الوحدة العربية، الذى يتحدث عن الدولة الإسلامية بعد وفاة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول الكتاب: نبحث فى تكوين المجال السياسى فى الإسلام المبكّر، و فى لحظة سياسية و تاريخية منه هى لحظة الخلافة التى تلت وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم)، وفرضت على الاجتماع السياسى الإسلامى الوليد تأسيس قواعد لتنظيم المجال السياسى ذاك.
و لقد كان على الجماعة السياسية الإسلامية، وعلى "الطبقة السياسية، كبار الصحابة) بالذات، أن تنهض بعبءٍ بالغ الصعوبة فى العثور على التوازن الضرورى بين حاجة الجماعة إلى دولة تناسب الواقع الجديد، الناشئ عقب رحيل الرسول، وحاجة الدولة إلى الحفاظ أساسياتها كدولة إسلامية، ولم يكن سهلًا دائمًا العثور على مثل ذلك التوازن، بنجاح، لأسباب تتعلق بامتناع النّص، ومحدودية أفعال السنّة النبوية فى كثير من أمور الدولة، وخاصة بعد أن تزايدت مساحة السياسى فى تجربة المسلمين، كان لا مناص من الاجتهاد لتغطية الفراغ النّصى و محدودية السوابق والسّنن، ولتوفير أجوبة مادية عن الوقائع والحاجات المستجدّة فى حياة الجماعة والأمّة.
ويكون واجبًا على الباحث فى الموضوع أن يسلّم بأن المجال السياسى الإسلامي، الذى تكوّن فى سياق تكون أول سلطة سياسية فى الإسلام (دولة المدينة)، سيشهد تطوُّرًا أكبر وتعقُّدًا أشدّ فى لحظته التكوينية الثانية (الخليفة) ممّا كان عليه أمرُه فى لحظته التكوينية الأولى (النبوية)، و الأمر فى هذا فى غاية البداهة، ذلك أن نطاق الدولة اتسع، منذ العقد الثانى للهجرة بانطلاق الفتوح، وتزايُد الحاجة إلى الجيش، وإلى المال الذى به يُبنَى و يتفرّغ أفراده للقتال، وإلى أنظمة لجبايته وتوزيعه، ثم تزايُدِ الحاجة إلى أطر سياسية وإدارية ودينية تزوّد الدولة بمن يشغل مناصبها والمسؤوليات، كالولاة والعمال، والعمّال على الخراج، والمتولين أمور القضاء والصلاة نيابة عن الخليفة.
و إلى ذلك، فإن جغرافيتها اتسعت و صارت امبراطوريةً تمتد من المغرب و الأندلس إلى آذريبيجان، و الأقوام و الثقافات و الملل فيها تعدّدت و اختلطت، و كان عليها أن تستوعبها سياسيًّا بعد أن استوعبتها عسكريًّا، و أن تحافظ لها على خصوصيتها و أحوالها الشخصية مع إدماجها – فى الوقت عينه – فى نظامها السياسي. و كان ذلك يتطلب منها اجتهادًا فى توفير النظم المناسبة لذينك النوعين من الاستيعاب، مثلما تطلَّب استعارة الكثير من نُظُمها الموروثة و استدماجها فى النسيج السياسى – الادارى الاسلامي... إلخ. و مع ذلك، لم يكن هذا التطور المذهل، الذى عرفه المجال السياسى الإسلامي، و خاصة فى العهد العُمَرى (الاستثنائى فى قيمته)، ليحجب الحقيقة الأخرى النقيض، و هى أنه فى جوف ذلك التحول الكبير فى التطور نشأت أسباب الأزمة التى ستعطل الديناميات التوحيدية العميقة التى قام عليها الاجتماع السياسى الإسلامي، ونجح المشروع السياسى النبوى فى أن يوصله إلى الذروة بعد فتح مكة، إذ سرعان ما بدأ الخلاف يدبّ بين الصحابة حول السلطة والثروة ويستَجِرّ نتائج بالغة السوء على الجماعة، كانت الفتنة و الحرب الأهلية من أظهر ظواهرها السيئة، وكان الانقسام بين المسلمين من ثمراتها المُرّة التى ما تزال تنهش – حتى اليوم – فى جسمها.
و ليس من شك لدينا فى أن وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان لها الأثر البالغ فى فقدان الاجتماع السياسى الإسلامى وحدته وتماسكه اللذين كانا أساسه منذ تأسيس الجماعة الإسلامية، فالوفاة لم تكن تفصيلًا عاديا فى حياة الجماعة، أو معطىً قابلًا للاستيعاب. وليس ذلك لأن مؤسس الدولة والجماعة نبى فحسب، بل لأنه قائد سياسى غيرُ عادي، ولا يمكن ملءُ الفراغ الذى خلّفه رحيله، حتى و إن كان من بين صحابته قادةٌ كبار مثل أبى بكرٍ و عمر (رضى الله عنه)، اللذيْن حفِظا وحدة الدولة والجماعة فى عهدهما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة