هو القائل «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» ولم يقل تجديد «خطابها»
رجال الدين اعتادوا أن يفكروا «بالنص» فى حين أن ضرورات مقاصد الشريعة وضرورات الحياة تتطلب أن نفكر «فى النص»
عمر بن الخطاب أوقف العمل بالعديد من أحكام آيات القرآن من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين
إن كنا حقا نريد لوطننا أن يتقدم فعلينا تحرير الخطاب الدينى من سطوة السلف المسجون وقبضة العمائم المتمايلة وخرافات العقول المغيبة
الفاروق خالف أمر الرسول بضرب شارب الخمر أربعين ضربة لأنه شعر بخطورة انتشار شرب الخمر
على ما يبدو فإن المجتمع المصرى والعربى قد استعذب مصطلح «تجديد الخطاب الدينى» لأنه يضمن عدم الصدام مع أحد، فقد رضى رجال الدين عن هذا المصطلح لأنه لا يمس «الدين» ولكنه يمس الخطاب، والخطاب مرهون بالخطيب وليس بمضمون الخطاب، كما رضى عنه المثقفون لأنه يبدأ بالتجديد أولا، وربما تذهب مرحلة التجديد، وتأتى مرحلة «التفنيد» كما رضى عنه المجتمع لأن طرفا القضية اتفقا عليه، ولأنه طبيعة المجتمعات هى «المحافظة» لكنى فى الحقيقة أرى أن هذا المصطلح لم يعد صالحا للاستهلاك العقلى، لأنه ببساطة فشل فى إقناع أحد بشىء، كما فشل فى إحداث أى تغيير يذكر، وفى اعتقادى أنه لابد من تغيير الوعى بالدين عبر تحرير هذا الخطاب من هذه الأغلال المفروضة عليه منذ قرون، والتى لم تكن يوما فى الكتاب المطهر أو السنة المشرفة، بل على العكس تماما، يأمرنا رسول الله بأن نجدد الدين كل مائة عام ولاحظ هنا أنه لم يقل تجديد الخطاب أو تجديد الفكر إنما تنبأ بتجديد «الدين» كل مائة عام حيث قال «ِإنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» والسؤال الآن هل نستطيع أن نقوم بهذه المهمة؟ والإجابة للأسف هى «لا»، لماذا؟ لأننا نعيش فى حالة سجن واستعباد.
تحرير السلف من عبودية الخلف
نعم هذه الجملة صحيحة، لم أقصد العكس على الإطلاق، قصدها كما هى، فللأسف نحن لم نسجن أنفسنا بالسلف ولا أفعال السلف ولا أقوال السلف، ولا تاريخ السلف ولا نصائح السلف، لكننا سجنا السلف نفسه، حكمنا عليه بالإعدام، وضعناه طوقا حول رقبتنا وقيدا فى معصمنا، فسجناه من حيث أردنا أن نكرمه، والسبب فى هذا هو أننا لم نتعامل مع السلف تعاملا صحيحا، لكننا استنزفناه، وضعناه فوق رقابنا، وعلى أكتافنا، وفى صدورنا وعقولنا، استنسخناه فى كل شىء، فوقفنا ضد الطبيعة الكونية التى تحتفل بالتنوع وتحرض عليه، صرنا كمن يدخل كل الأفلام من منتصفها، لا يدرى لماذا قتل هذا الشاب ذلك العجوز، ولماذا هربت تلك السيدة مع هذا الرجل، لا ننظر فى الأمور نظرة حق، ولا نتبين فروق التوقيت ولا فروق البيئات ولا فروق الظروف، فعلى سبيل المثال فإن أهل المناطق الحارة يشربون الماء باردا أو حتى مثلجا، وقد يتمادى البعض فيفعل هذا حتى فى الشتاء، فهل يصح أن يأتى أحفادهم الذين هاجروا إلى الإسكيمو ليقولوا إن سنة أجدادنا هى شرب المياه الباردة حتى فى الشتاء، وهذا ما أقصد به سجن السلف، فالخلف، أى نحن، سجنا السلف الصالح فى بعضهم تصرفات فى حين أن السلف الصالح لم يسجن نفسه أبدا، بل نظر وتدبر وفكر وقرر، ثم أصدر الأحكام التى تناسب عصره وبيئته وأهل بلادهم.
لو سألت أى مسلم عن حد شارب الخمر سيقول لك إنه ثمانون جلدة، لكن الغالبية العظمى لا تعرف إن هذا الحد لم يكن أبدا «ثمانون» ولم يكن كذلك «جلدة» فالثابت عن النبى أن حد شرب الخمر هو أربعين ضربة، أحيانا كان يضرب النعال، وفى أحيان أخرى كان يضرب بالجريد أو العصا، ويقول البخارى فى الصحيح، إن النبى، صلى الله عليه وسلم، ضرب فى الخمر بالجريد والنعال وأخرج النسائى «فضربه بالنعال نحوًا من أربعين ثم أتى به وأبو بكر فصنع به مثل ذلك: وفى رواية أخرى جلد بالجريد والنعال أربعين، وأخرج البخارى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أتى بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران فشق عليه وأمر من فى البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه!
من هنا نرى أن حكم شرب الخمر كان أربعون ضربة وليس جلدة، فمتى أصبحت الضربة «جلدة» ومتى أصبحت الأربعون ثمانين؟ هذا ما يدلنا عليه البخارى أيضا الذى أخرج عن السائب بن يزيد الذى قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبى بكر فصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين، أما ابن حجر فيقول: «إن عمر جعله أربعين سوطًا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطًا وقال هذا أدنى الحدود». ومن هنا نرى أن الإمام عمر ابن الخطاب هو الذى جعل حد شرب الخمر ثمانين جلدة، وأنه كان فى بداية عهده يضرب شارب الخمر بملابس والعمائم والنعال والجريد مثلما كان يفعل رسول الله، ثم استخدم السوط لما رأى شاربى الخمر لا ينتهون عن شربه، ثم جعل عدد الجلد بالسوط ستين، فلما رأى أن الناس لم تنته عن شرب الخمر جعل العدد ثمانين، ويقال إن عبد الرحمن ابن عوف هو الذى أشار عليه بذلك، ويقال إن على ابن طالب هو صاحب المشورة لأنه كان يكره الخمر ويكره شاربيه لما به من موبقات.
من هنا نرى أن الصحابة أنفسهم لم يتقيدوا بما فعله رسول الله فى مسألة شرب الخمر، وهم لم يفعلوا هذا رغبة منهم فى كسر القواعد ولا مخالفة السنن، وإنما فعل هذا لضرورة حياتية ملحة، فقد رأوا أن شرب الخمر يهدد الأمة، فى وقت كادت الجزيرة العربية أن تودع الفقر والقحط بعد أن انهمرت عليها الأموال والخيرات من البلاد التى فتحها العرب، ولهذا عمل الصحابة على تشديد عقوبة شرب الخمر لكى لا تغرق البلاد فى السكر وتترك دينها ودنياها، أى أنهم تأملوا وفكروا وقرروا ولم يتمسكوا بما فعله «سلفهم» لأن مصلحة المسلمين أهم من أى شىء.
هذه واقعة واحدة تخبرنا بأن الصحابة أنفسهم كانوا يتمتعون بقدر كبير من المرونة مع سنن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تكن قد مرت 14 سنة على وفاته، فلماذا نقدس نحن ما فعله السلف ونضع حوله سياجا حديدا غير قابل للمساس ونحن على بعد 14 قرنا؟
التحرير من سطوة العمائم
تخيل أنك تقول كل يوم نفس الكلام، وتحفظ نفس النصوص، وتردد نفس الحكم، وتستشهد بنفس أبيات الشعر، وتنفعل نفس الانفعالات، وتأمر بنفس الأوامر، ثم يأتى أحد ليقول لك: لابد أن تغير كل ما تفعله الآن وهنا، فهل ستفعل؟ وإن فعلت، هل سيكون لك ذات المصداقية؟
هذا بالظبط ما يحدث الآن، فحينما نقول لرجال الدين لابد من تجديد الخطاب الدينى، فكأنما نقول لهم اخلعوا جلودكم وغيروا ملامحكم وبدلوا عقولكم بشرط أن يظل الناس معتقدين أنكم مازلتم أنتم؟
لا أقصد هنا بالطبع كل رجال الدين، فقد عرفنا فى تاريخنا الكثير من الرجال الشجعان الذين قادوا حركة التطوير والتحديث، وعلى رأسهم الإمام الجليل محمد عبده وخلفاؤه الصالحين مثل الشيخ مصطفى المراغى والشيخ محمود شلتوت، وغيرهم، لكنى فى الحقيقة أنا لا أرى الآن فائدة تذكر من أن ننتظر عالما مستنيرا يفتح لنا المجال العام مثلما فعل محمد عبده، أو نصطدم بآخر يضيق علينا الدنيا بما فيها مثلما يفعل آخرون.
رجال الدين اعتادوا أن يفكروا «بالنص» فى حين أن ضرورات مقاصد الشريعة وضرورات الحياة تتطلب أن نفكر «فى النص» وطلبنا من رجال الدين تجديد الخطاب الدينى يتشابه عندى مع طلبنا لجراح أن يجرى عملية جراحية لنفسه، وهو أمر يستحيل أن يتحقق وإن تحقق سيسبب الخسران للجميع، فقد تربى رجال الدين الحاليون على آليات معينة، وتشبعوا بثقافة معينة، ثقافة تعلى من قيمة الحفظ، وترفع من شأن ظاهر النص، وغاية الاجتهاد عندهم فى أن يأتى أحد برأى غير مشهور لأحد قدامى الفقهاء ليقرع به حجة أخيه، أو يفصل به فى أمر مستعص، وليس أدل على هذا من تسيد «حفَّاظ» الأحاديث على من دونهم من علماء الإسلام، وأصبح الفقهاء الأصلاء الذين يعرفون أن الفهم هو «الفهم» موضع شبهة.
باختصار، غالبية رجال الدين الآن هم فى الحقيقة حراس للخطاب الدينى المتشدد المنغلق الرافض لكل اجتهاد حقيقى، يريدون أن نعود مرة أخرى إلى عصور بائدة ليس بها شىء مما نعيشه الآن، هم تمامًا مثل إخوانهم من رجال الدين الذين حرموا شرب القهوة فى بداية ظهورها، ومثل إخوانهم الذين حرموا استخدام آلات الطباعة، ومثل إخوانهم الذين حرموا شرب المياه من الصنبور، فقد نظروا وتأملوا ولم يجدوا فى القرآن أو السنّة أو مآثر الأئمة الأربعة مطبعة أو قهوة أو صنبور، فحرموها استسهالًا، وحكموا على المجتمعات بالتخلف والرجعية من باب «الاستحراص».
نأتى إلى السؤال: من يجدد الخطاب الدينى؟
فى اعتقادى أن الأمر ليس سهلًا كما يظنه البعض وليس مستحيلًا كما يتخيله البعض، وفى اعتقادى أيضًا أن العائق الأكبر فى مسألة تجديد الخطاب الدينى ليست فى «نوعية الخطاب» سواء كان قديمًا أو جديدًا، لكن الأهم من هذا هو مدى تقبل المجتمع له، ولن يتقبل المجتمع الخطاب الدينى المعدل أو حتى مدرسة فقهية جديدة إلا إذا كان لدينا جيش من الباحثين الحقيقيين الذين يتسلحون بالعلم الدينى والعلم الحقيقى، ولهذا دعوت أكثر من مرة إلى أن تتولى وزارة الثقافة هذا الأمر بأن تنشئ مؤسسة دينية تحت اسم «مركز الإمام محمد عبده لتحقيق التراث» ليعمل هذا المركز على إنتاج الأبحاث العلمية التى تحقق فى أمور التراث وتبرز ما بها، وتعيد ترتيب ما انفرط، وتبيد ما تكلس وتحجر، على أن يضم هذا المركز معهدًا أكاديميًا يمنح درجات الماجستير والدكتوراه فى تاريخ الإسلام وعلومه وفلسفته، مركز تتولاه الدولة بالعناية، ووسائل الإعلام بالرعاية، ليصبح كل بحث جديد بمثابة قضية الساعة، يجتمع حوله من يجتمع ويختلف عليه من يختلف، وبالتالى نضمن أن يحصل الجميع على حصته من الفهم والتحليل والنقد والمقارنة، ووقتها لن نحتاج إلى «تجديد الخطاب الدينى» لأن الشعب كله سيكون قادرًا على حسم اختياراته بنفسه.
الحرب العظمى فصل الدين عن الخرافة
نعرف جميعا أن الإيمان بالله يستلزم إيمانا ببعض الأمور الغيبية وهو ما أقرته العديد من الأحاديث النبوية الشريفة فأركان الإيمان كما نعرفها هى الإيمان «باللهِ، وملائكتِه، وكتابِه، ولقائِه، ورُسُلِه، والبَعْثِ بعد الموت، وبالقَدَرِ خيره وشره» فلماذا نثقل على الإسلام بالخرافات التى لا تمت إليه بصلة ولا تشكل فارقا يذكر فى صميم الإيمان، إلا إذا كان المقصود بذلك هو الضحك على الناس وأسرهم بما لا يؤيده دين ولا يقيم أمما؟
لماذا نحشر فى الإسلام أساطير مثل أساطير الأولين؟ لماذا يتحل الثعبان الأقرع كل هذه المساحة من حياتنا حتى خصص له أحد الكتاب كتابا موجها للأطفال؟ لماذا ندخل القرآن الكريم فى ممارسات الشعوذة وفك المربوط وربط المفكوك؟ لماذا نترك شخصيات القرآن كلها ونمسك فى «هاروت وماروت» اللذان أورد القرآن ذكرهما على سبيل العظة لا غير؟
إن أشرس المعارك التى ينبغى أن نخوضها من أجل تحرير الخطاب الدينى هى معركة تخليصه من الخرافة، فالإسلام لم ينتشر بالخرافة، ولم يزدهر بالخرافة، ولم ينتعش بالخرافة، لكنه انتكس بالخرافة، انتكس حينما صارت ترك القرآن القلب والروح والعقل وعشعش فى الأجبة والتحصينات والوقاية من الجان، انتكس حينما رفضنا دخول المطبعة إلى بلادنا وأدخلنا بدلا منها «البخور الجاوى واللبان الدكر»، سقطت الأندلس حينما عمرت بالخرافة بعدما كانت عامرة بالفقه والعلم والشعر والعمارة والموسيقى، انتكست الأندلس حينما استولى عليها «المهدى محمد بن تومرت» إمام دولة الموحدين فى المغرب والأندلس الذى كان أشد تطرفا وقسوة من حكام «المرابطين» ولنا أن نقف قليلا مع هذه الشخصية التى كان ظهورها بداية النهاية لدولة الأندلس، فكما يقول المؤرخ الكبير محمد عبد الله عنان عن هذه الدولة فى كتابه المهم «دولة الإسلام فى الأندلس: شاء القدر بأن تحول سيرها من التقدم والتوطد إلى الإدبار والانحلال المفاجئ فبينما هى فى أوج قوتها ورسوخها إذا بها تجد نفسها فجأة أمام فورة دينية صغيرة يضطلع بها فقيه متواضع، وتضطرم بسرعة مدهشة حتى تغمر كل شىء فيها، وتستغرق كل قواها ومواردها، ثم تنتهى بعد صراع قصير الأمد بالقضاء عليها، تلك هى ثورة المهدى ابن تومرت».
وقد بدأ ابن تومرت ثورته وأنشأ دولته على أنقاض دولة المرابطين، ليصبح عنوانا لنهايتين، الأولى نهاية دولة المرابطين، والثانية نهاية الوجود العربى فى الأندلس، وكما يقول «عنان» فإن دعوى ابن تومرت «قامت فى البداية على شعار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبدأت رياسته السياسية فى وطنه بسوس الأقصى وفى قبيلة هرغة وغيرها من بطون مصمودة، ولكى يؤسس «ابن تومرت» لحكمه اختلق العديد من الأساطير التى تؤكد أنه من أصحاب الكرامات، وذلك لكى يضفى على نفسه مسحة قدسية جعلت منه آمرا مطاعا، منها مثلا أنه أشاع أنه يمشى على الماء، ومنها أنه تتلمذ على يد الإمام أبو حامد الغزالى، ومنها أنه حفيد رسول الله، وقد أثبت المؤرخون والباحثون زيف هذه الادعاءات وكذبها واستحالتها، لكن برغم ذلك صدقه الكثيرون وأسهموا بتلك الثورة فى استنزاف دولة الإسلام ما بين الحروب الداخلية والفتن القاتلة، مدعيا أنه معصوم من الخطأ، وأن المرابطين من «المجسمة» الكفرة، وادَّعى أن على بن يوسف بن تاشفين الأمير المرابطى ومَنْ معه من الولاة والعلماء، ومَنْ يعمل تحت حكمهم ومَنْ يَرضى بحُكمهم، هو من الكافرين مستحلا بذلك دماءهم.
ولم تقف خرافات ابن تومرت عند حد إراقة دماء المرابطين من خصومه فحسب، وإنما امتدت يده الملطخة بالدماء لتستحل دماء كل من يشك فى ولائهم من أعوانه، مهدرا بذلك أحد أهم مقاصد الشريعة ألا وهو «حفظ النفس» مستعينا على ذلك بأحد أتباعه الذى أسماه «البشير» إمعانا فى خداع الناس وتضليلهم، أما اسمه الحقيقى فهو أبو عبد الله بن محسن الونشريشى، لكن استعان ابن تومرت بهذا الرجل لإقصاء معارضيه وقتل أتباعه بحجة تمييز الحق والباطل أو تطهير جماعته من الخبائث؟
تستفيض المصادر التاريخية فى وصف هذه المسرحية التى ألفها بن تومرت ومثلها وأخرجها بمعاونة «الونشيرى» فقد أمر ابن تومرت الونشيرى بأن يخفى علمه وحفظه للقرآن ويظهر للناس فى صورة المجذوب المجنون وكما يقول الإمام الذهبى فى سيرة أعلام النبلاء فقد قال ابن تومرت لأصحابه إن الونشيرى رجل أُمِّىٌّ، ولا يثبت على دابَّة، فقد جعله الله مُبَشِّرًا لكم، مُطَّلِعًا على أسراركم، وهو آية لكم قد حفظ القرآن، ثم نادى فى أصحابه: من كان منكم مطيعا لى فليأت فأتاه أصحابه إلى جبال المصمادة، فأتاه مئات الآلاف فسار بينهم الونشيرى واختار منهم عشرات الآلاف ليقتلوا تحت زعم تمييز الخبيث من الطيب.وكان ابن تومرت كثيرا ما يلجأ إلى الحيل الغرائبية لكى يقنع أصحابه بنفسه ويدلل على أنه فقيه هذا العصر مسبغا على نفسه القدسية، حتى أنه كان يخفى بعض أصحابه فى القبور ثم يجمع الناس عندها ليحدث من بداخلها وكأنه يحدث الموتى، فيسألهم عن أسمائهم فيقولوا إنهم «فلان وفلان» من أصحابه الذين قتلوا فى المعارك أو فى يوم التمييز، فيقول لهم ماذا تروا فيما وعدتكم به، فيقولون صدقا، ويخبر الناس من حوله أنهم فى الجنة الآن، حتى إذا ما ترك تلك القبور أمر بإحكام إغلاقها لكى لا يخرج من كان فيها من أعوانه وليكتم السر إلى الأبد.
وتمكن «ابن تومرت» من خلال تلك الأساطير من الاستحواذ على عقول أتباعه حتى أنه يروى أنه كان يقتل بعضا منهم كل فترة لكى يطهرهم، وكانوا يذهبون إلى القتل كل فترة مبتهجين مهللين مغيبين عن الوعى بفعل التخدير باسم الدين، ومن خلال هذه الكذبات المتوالية أنشأ ابن تومرت دولة، ويشاء القدر أن تنتهى تلك الدولة بنهاية أشبه بنهاية دولة المرابطين، فقد أمر الخليفة أبو يعقوب المنصور بإحراق كتب العالم الكبير «ابن رشد» قاضى القضاة، لما كان يرى فيها من علوم وأفكار اتهمه بسببها بالكفر والإلحاد، ليموت بعدها بفترة ويتولى ابنه محمد بن يعقوب الحكم الذى انهزم أمام الفونسو الثامن فى معركة «حصن العقاب» التى تعد النهاية الحقيقة لدولة الإسلام فى الأندلس.
هذا ما تفعله الخرافة فى الدول، وهذا ما تفعله فى الشعوب، وإن كنا حقا نريد لوطننا أن يتقدم على أسس حقيقية لا تغفل وجدان الأمة المشبع بالإسلام، ولا تجافى الحاضر القاسى، فعلينا تحرير الخطاب الدينى من سطوة السلف المسجون، وقبضة العمائم المتمايلة، وخرافات العقول المغيبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة