معركة كبيرة خاضها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى الأشهر الماضية، مع رئيس البنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى جيروم باول، لخفض أسعار الفائدة، منذ أكثر من عام، لينتصر فيها مؤخرا، بفضل المخاوف التى اجتاحت العالم جراء انتشار فيروس كورونا، وذلك بعد قرار خفض أسعار الفائدة فى الولايات المتحدة إلى نسبة تقترب من الصفر.
وهذا يحمل تداعيات كبيرة، سواء على الاقتصاد الأمريكى، أو الأوضاع الاقتصادية العالمية فى المرحلة الراهنة، فى ظل توقعات كبير تدور حول احتمالات نشوب أزمة عالمية تصل إلى حد الركود الاقتصادى العالمى، على غرار أزمة الرهن العقارى، التى ضربت الولايات المتحدة والعديد من القوى الاقتصادية بين عامى 2007 و2008، لتترك تداعياتها مازالت قائمة حتى الآن فى العديد من العواصم العالمية.
ولعل القرار بخفض أسعار الفائدة فى الولايات المتحدة يعنى أن قيمة العملة الأمريكية سوف تتراجع، وهو الأمر الذى كان يعنى قبل عدة سنوات "كارثة اقتصادية"، إلا أن ثمة تغيرات كبيرة فى المشهد الاقتصادى الدولى، ساهمت فى فك الارتباط بين قوة الاقتصاد وقيمة العملة، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن النظام القديم تم إرسائه على أساس حقيقة مفادها أن أمريكا هى القوى المهيمنة على العالم اقتصاديا، باعتبارها قائد المعسكر المنتصر فى الحرب العالمية الثانية فى الأربعينات من القرن الماضى، بينما تأكدت هذه الحقيقة بعد ذلك بعقود، إثر انهيار الاتحاد السوفيتى فى أعقاب الحرب الباردة، وبالتالى تبقى قيمة العملة مؤشرا لقوة الاقتصاد الأمريكى، خاصة وأن كافة العملات الأخرى صارت مرتبطة بها.
مزايا أمريكية.. واشنطن فرضت قواعدها على العالم
فلو نظرنا إلى أسس النظام الاقتصادى القديم، نجد أن هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية على العالم، كانت بمثابة حقيقة لا تقبل الجدل، فأوروبا كانت مهلهلة بسبب الصراعات الدولية التى خاضتها منذ بداية القرن الماضى، وانقسام دولها، على غرار ألمانيا، والتى نجحت فى استعادة قدرا من مكانتها الاقتصادية فى أعقاب الوحدة بين الألمانيتين فى عام 1989، بينما لم تكن الصين تمثل تهديدا للمكانة الأمريكية، فى حين أن موسكو كانت قد دمرتها "معركتها الباردة"، مع واشنطن، والتى استمرت لحوالى أربعة عقود من الزمن، لتنهار مع امبراطوريتها التاريخية، نظامها الاقتصادى الشيوعى.
الدمار لاحق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
وهنا أصبحت أمريكا هى الحاكم الفعلى للاقتصاد العالمى، بحيث تديره بالشكل الذى يروق لها، عبر فرض النظام الرأسمالى على محيطها الجغرافى، وكذلك تطبيق قواعد العولمة، وذلك من خلال تقديم الحوافز الاقتصادية للدول التى تعلن "فروض الولاء والطاعة" للقوى الأمريكية، وهو ما يبدو فى قوانين حرية التجارة، والتى قامت على دخول الصادرات القادمة منها إلى الأراضى الأمريكية دون فرض رسوم جمركية، بالإضافة إلى العديد من المزايا الأخرى، وهى التى ساهمت فى صعود العديد من القوى الاقتصادية الجديدة، والتى باتت منافسا للولايات المتحدة، على غرار الصعود الصينى الكبير، وكذلك المكانة الكبيرة التى بات يحتلها الاتحاد الأوروبى، فى الاقتصاد العالمى، لتصبح تلك القوى بمثابة تهديدا للعرش الأمريكى على قمة النظام الاقتصادى الدولى.
المزايا تتحول إلى لعنة.. النظام القديم صنع منافسين لواشنطن
إلا أن المزايا الأمريكية تحولت إلى لعنة تطارد واشنطن فى الآونة الأخيرة، خاصة وأن الدول، التى حققت مكاسب كبيرة بفضل السياسات التى تبنتها الإدارات المتعاقبة فى الولايات المتحدة، اتجهت نحو غزو الأسواق الأمريكية، من خلال سياسات نقدية، قامت فى الأساس على تخفيض قيمة عملاتها، لتصبح أقل من قيمتها الحقيقية، فى مواجهة الدولار، وهو ما ساهم بصورة كبيرة فى تقديم منتجات بأسعار أقل إذا ما قورنت بنظيرتها الأمريكية، وبالتالى تكبدت المصانع الأمريكية خسائر كبيرة، جراء انخفاض الإقبال على المنتجات الأمريكية الصنع سواء فى الأسواق بالداخل، أو بالخارج.
الدولار فى مواجهة اليوان الصينى
يبدو أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أدرك تلك الحقائق، فأعلن منذ اليوم الأول لوجوده بالبيت الأبيض، خصومته تجاه منافسيه الاقتصاديين، سواء كانوا من حلفاء واشنطن التاريخيين، على غرار أوروبا، أو من خصومها، كما هو الحال مع الصين، وهو ما بدا فى الحرب التجارية التى شنها، عبر فرض رسوم جمركية على كافة الواردات القادمة إلى بلاده، وهو الإجراء الذى كان يمثابة ضربة قاصمة، لاقتصادات العديد من الدول، لتتلوه ضربات أخرى، لم تقتصر على الجانب الاقتصادى، حيث امتدت إلى خطوات أمنية، على غرار الرغبة الأمريكية على الانسحاب العسكرى من الدول الحليفة، أو سياسية، وهو ما يبدو فى الدعم الكبير لتفكيك الاتحاد الأوروبى، وهى الخطوات التى تصب فى مجملها نحو استعادة المكانة الاقتصادية لأمريكا.
ميزة تنافسية.. إدارة ترامب تسعى لاستعادة الهيمنة
ويعد الركود المتوقع جراء حالة الهلع التى تجتاح العالم بسبب انتشار فيروس كورونا، بمثابة فرصة جديدة لمزيد من الضربات الأمريكية للخصوم، عبر تخفيض سعر الفائدة، وبالتالى تقليل قيمة العملة الأمريكية، فى مواجهة العملات الأخرى، وهو الأمر الذى يقدم ميزة تنافسية كبيرة للولايات المتحدة، خاصة وأن واشنطن تخطط لخوض صراع جديد مع أبرز منافسيها، وهو الصين، لإجبارها على رفع قيمة عملتها، فى ظل الشكوك التى تحوم حول تلاعب بكين فيما يتعلق بقيمة عملتها.
التلاعب بالعملة ربما لا يقتصر على الصين، فالحكومة الألمانية، باعتبارها صاحبة الاقتصاد الأقوى فى أوروبا، اتخذت إجراءات من شأنها تخفيض قيمة اليورو، استطاعت من خلالها تحقيق الكثير من المزايا التجارية، بينما تحتفظ اليابان بقيمة عملتها أقل من قيمتها الحقيقية، لتصبح أرخص عملة بين الاقتصادات الكبرى فى العالم، خاصة وأن البورصة اليابانية دائما ما تشهد انتكاسات كبيرة كلما زادت قيمة الين، فى مؤشر واضح على ارتباط المكاسب الاقتصادية التى تحققها طوكيو بالإجراءات النقدية التى تتخذها الحكومة.
وهنا أصبح "كورونا" بمثابة فرصة جديدة لواشنطن للمنافسة الاقتصادية لواشنطن، عبر ممارسة المزيد من الضغوط على منافسيها الاقتصاديين، من خلال ما يمكننا تسميته بسياسات "إفقار الجار"، خاصة وأن الإجراءات التى من شأنها تخفيض قيمة العملة لا تمثل انعكاسا لقوة الاقتصاد فى المرحلة الراهنة، وهو ما يبدو واضحا فى قوة الاقتصاد الصينى رغم انخفاض قيمة العملة.