في الوقت الذى تطيح فيه موجة التغيير بالعديد من القواعد الدولية في المرحلة الراهنة، يبدو أن المنظمات الدولية هي الأخرى ليست ببعيدة تماما، عما يمكننا تسميته بحالة "الحراك" الدولى الراهن، والتي تقودها العديد من التطورات، على رأسها تفشى فيروس "كورونا"، في العديد من دول العالم، بدءً من الصين، مرورا بأوروبا الغربية، وحتى الولايات المتحدة، والكيفية التي تعاملت بها الدول مع الأزمة، مما يساهم في إعادة ترتيب مواقعها في أجندة النظام الدولى الجديد.
ولعل الحديث عن أزمة "كورونا" يرتبط إلى حد كبير بمستقبل الأمم المتحدة، والمنظمات التابعة لها، على غرار منظمة الصحة العالمية، خاصة بعد الاتهامات الأمريكية للمنظمة الدولية البارزة بالعمل لصالح الصين، وبالتالي التلويح بسحب التمويل الذى تقدمه الولايات لها، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في تقويض الدور الذى تقوم به في المستقبل.
ويمثل التلويح الأمريكي بسحب التمويل الذى تمنحه واشنطن للمنظمات الدولية ليس بالأمر الجديد تماما، بل أن الأمر لم يقتصر إطلاقا على التهديد، حيث سبق للولايات المتحدة الانسحاب فعليا من منظمات تابعة للأمم المتحدة، وعلى رأسها منظمة اليونيسكو، على خلفية انتقادات وجهتها المنظمة لإسرائيل، اعتبرتها الدولة العبرية بمثابة سياسة معادية لها، كما قامت واشنطن بالخطوة نفسها مع مجلس حقوق الإنسان الدولى تحت نفس الذريعة وهى "الانحياز ضد إسرائيل".
العدائية الأمريكية تجاه المنظمات الدولية لم تقتصر على الانسحاب أو التلويح بالانسحاب منها، وإنما ترجمتها إدارة ترامب إلى سياسات انتهكت خلالها القواعد الدولية التي أرستها، وهو ما بدا على سبيل المثال فى الإجراءات التجارية الحمائية التي اتخذها تجاه العديد من الدول الأخرى، سواء من الحلفاء أو الخصوم، أو حتى الدعم الكبير الذى قدمه لدفع بريطانيا نحو خروج قوى وحقيقى من الاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى تحقق فعليا في يناير الماضى، ليضع المسمار الأول في نعش "أوروبا الموحدة".
السياسات الأمريكية التي تتسم بعدائيتها الشديدة تجاه المنظمات الدولية تمثل جزءً لا يتجزأ من رؤية الرئيس دونالد ترامب، التي لم يخفيها منذ اليوم الأول لبزوغ نجمه على الساحة السياسية العالمية، عندما أعلن ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة، فالرجل معروف بموقفه المناوئ للمؤسسات، كما أنه طالما وجه الكثير من الانتقادات اللاذعة للأمم المتحدة تحديدا، معتبرا إياها ناد لتمضية الوقت، كما انتقد العديد من القوانين التي أرستها المنظمة والمنظمات الأخرى التابعة لها، كنظام التجارة العالمى، مما أثار العديد من التساؤلات حول مستقبل تلك المنظمات، منذ اللحظة الأولى لاعتلاء عرش البيت الأبيض.
وهنا يمكننا القول بأن أزمة "كورونا" الراهنة تمثل فرصة جديدة لإنهاء عصر المنظمات الدولية، أو على الأقل لإعادة هيكلتها، بالشكل الذى يروق لنظام دولى جديد، في الوقت الذى تسعى فيه المنظمات نحو البحث عن بدائل، يمكن الاستناد عليهم في المرحلة المقبلة للحفاظ على بقائهم في مواجهة الهجمات الأمريكية الكاسحة التي تهدف إلى تقويض دورهم في المستقبل.